آراء

د. حسنى ابوحبيب يكتب : أشباه الرجال

“لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ” [النساء: 143].نزل هذا القول الكريم على قلب رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم ليخبره عن فئام من الناس لا هم مؤمنون ولا هم كافرون، لا تستطيع تصنيفهم، فلا هم رجال ولا هم غير ذلك، تحسبهم أيقاظاً وهم رقود، ولطالما عانى الأحرار من هؤلاء قديماً وحديثاً، ورحم الله سيدنا الإمام علي، حيث كان يُخاطب هؤلاء وأمثالهم بقوله: “يا أشباه الرجال ولا رجال”.

هؤلاء المذبذبين هم كَسْرُ الرجال، وكثرهم في أي عصر تدل على أنه زمن الكسر، وظهورهم يكون آية نهايته، كما أنهم علامة زواله، فهم مع من غلب بالتملق والنفاق، إن أعطوا رضوا وإلا فهم في شقاق.

ومن علامات الضعف وأمارات الذل أن يكثر المنافقون الأفاقون حول ولاة الأمر وأرباب السلطان ، ينافقونهم ويداهنونهم، يزينون لهم الباطل ويُبغّضون إليهم الحق، ليستفيدوا من باطلهم وحيفهم، وهم مع السلطان ما استقام لهم السلطان، وإلا مالوا عنه، وكانوا أول الخارجين عليه، فهم لا عهد لهم ولا ميثاق، لا يراعون في أحد إلّاً ولا ذمة، ومراقب التاريخ ومتأمل أحداثه يجد أنه ما أودى بالسلاطين بله بالدول في أغلب الأحيان إلا حاشيتهم ومدّاحيهم، بتزيين الباطل لهم، وتقبيح الحق إليهم.

إن سيدنا موسى عليه السلام عندما أتى فرعون وأظهر له الآيات الدَّالّة على صدقه، من العصا واليد وغيرهما، سكت فرعون ولم يُجب، فسارع هؤلاء المنتفعون بتأليبه على موسى متهمين إياه بالسحر وبمحاولة الانقلاب على ملك فرعون، “…قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ” (الأعراف: 109 ، 110)، ليس هذا فحسب بل اتهموا سيدنا موسى بأنه من دعاة الفساد في الأرض، “وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ” (الأعراف: 127)، ومازالوا بفرعون حتى أمر بقهرهم وقتلهم، “قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ” (الأعراف: 127)، ولم يَقرْ لهؤلاء المنافقين قرار حتى أودوا بفرعون وبدولته، فكان غرقه ومن معه نتيجة بغيه واستماعه لهؤلاء الأفاقين، وعدم كفّه إياهم عن الظلم والعسف.

نعم إنَّ القوة التي مبعثها السطوة والجبروت، وقوامها الظلم والعسف لا تُورث إلا الضعف والخذلان، لكن أهل السطوة والجبروت لا يشعرون بذلك إلا بعد فوات الأوان وبعد استحالة الاستدراك. بعد أن يصير الضعف ميراثاً للدول لا يمكن التخلص منه، وعندما تضعف الدولة بالطبع يحوم حولها الأقوياء كما تحوم النسور والصقور حول فرائسها التي فاحت منها رائحة الموت، فللموت رائحة تفوح من الفرائس لا يشمها إلا مفترسوها.

ومن ثَمَّ ولخطورة هؤلاء المدّاحين أمر نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم بألّا يُقابل هؤلاء الأفّاقون إلا بإلقاء التراب على وجوههم، فقال صلى الله عليه وسلم: “احْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ” (المعجم الكبير للطبراني).

لذا لمّا مدح رجلٌ ابن عمر رضي الله تعالى عنه أخذ تراباً من الأرض فرماه في وجهه، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: احثوا في وجوه المدَّاحين التراب.(حلية الأولياء)، وعَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ فَأَثْنَى عَلَى أَمِيرٍ مِنَ الأُمَرَاءِ، فَجَعَلَ المِقْدَادُ بن الأسود، يَحْثُو فِي وَجْهِهِ التُّرَابَ، وَقَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَحْثُوَ فِي وُجُوهِ المَدَّاحِينَ التُّرَابَ. (سنن الترمذي).

وذلك الأمر من سيد الخلق لهؤلاء الممدوحين، ليأخذوا حذرهم من أولئك المادحين ، وما ذاك إلا لأنهم هم أعدى أعدائهم على وجه الحقيقة، لأنهم يُبغّضونهم إلى رعيتهم، ويبغّضون رعيتهم إليهم ، فيخسرون عزوتهم ومصدر قوتهم، وإن ظنوا أنهم يكسبون، وعداوتهم ليست قاصرة على الدنيا فقط بل هي ممتدة إلى الآخرة، فهؤلاء المدَّاحون هم أنفسهم من يسألون الله يوم القيامة أن يضاعف العذاب على ممدوحيهم، قائلين كما حكى القرآن الكريم عنهم: “رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً” [الأحزاب: ٦٨].

فالرجل الحكيم عليه أن يحذر من هؤلاء أشد من حذره من عدوه، كان أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان رحمه الله يشترط على جلسائه شروطاً ثلاثة، قائلاً لهم: لا تمدحوني، فآنا أعلم بنفسي، ولا تكذبوني، فإنه لا رأي لكذوبٍ، ولا تغتابوا عندي أحداً.

نسأل الله أن يكفينا شر هؤلاء المنافقين، وأن يحفظ كلَّ من ولي للمسلمين أمراً منهم.

زر الذهاب إلى الأعلى