آراء

د . حسني ابوحبيب يكتب: جبر قلوب الأبرار

“وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِله” [الانفطار: 19].
ختم الله تعالى بهذا القول الكريم سورة أطلق عليها سبحانه اسم: الانفطار. بدأها جلّ وعلا بذكر أهوال يوم القيامة من انفطار للسموات، وانتثار للكواكب، وانفجار للبحار، وبعثرة للقبور، في خضمّ تلك الأهوال تعلم كل نفس ما قدمت وأخرت من خير أو شر، ثم تنتقل تلك السورة المرعبة في بدايتها إلى عتاب رقيق من ربك كريم لعبد جاحد، “يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ” [الانفطار: 6: 8]، ثم تخبر السورة بأنه ما حمل ذلك العبد على الجحود إلا تكذيبه بيوم الدين، وغفلته عن الكرام الكاتبين، ثم تنتقل السورة إلى مشهد تصور فيه الأبرار ينعّمون في النعيم، وآخر تصور فيه الفجار يعذبون في الجحيم عذاباً دائماً لا يستطيعون التغيب عنه، وبعد تلك المشاهد التي صُورت أدقّ تصوير وأُخرجت أعظم إخراج تُختم السورة بقول ما أروعه، وببشرى ما أعظمها لمن نظر إليها بعين قلبه، ألا وهي قوله تعالى: “وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِله”، فجبرت في آخرها قلوب الأبرار كما فطرت في أولها قلوب الفجّار، فكما فطرت جبرت، وكما خوّفت أمّنت، وكما أرهبت طمأنت. فسبحان من هذا كلامه وذلك بيانه.

فمن أجلّ نعم الله تعالى وأعظمها على عباده في ذلك اليوم المشهود أن جعل الأمر فيه إليه لا لأحد غيره، فله الحمد وحده كما له الأمر وحده، فمن يرحم كرحمته؟! ومن يغفر كمغفرته؟!!، ومن يستر كستره ؟!!، وهو القائل: “وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ” [الأعراف: 156]، وهو الذي أمر نبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بأن يخبر المسرفين بألّا يقنطوا من رحمته، ويبشرهم بمغفرته للذنوب جميعاً، “قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ” [الزمر: 53].

لذا ينبغي على المؤمن الفطن أن يكثر من الحمد لله تعالى على هذه النعمة التي لا يذكرها إلا القليل، ولا يحمد عليها إلا من فتح الله عين قلبه على نعمه، فهب أن الله تعالى جعل الأمر في ذلك اليوم لملَك مقرب أو لنبي مرسل أو حتى لأب أو أم أو لسماء أو أرض، أو غير ذلك. هل كانوا سيرحمون كرحمته أو يغفرون كمغفرته.

فكم من مرة يثور غضب الملائكة على العصاة من عباد الله ويستأذنون ربهم في إهلاكهم، كما تثور السماء والأرض والجبال والبحار، كل هؤلاء يستأذنون ربهم في الانقضاض على العصاة من الخلق، متعللين بأن هؤلاء أكلوا خيره وشكروا غيره، فيجيبهم من بيده الأمر بقوله: “دعوني وخَلْقي، لو خلقتموهم لرحمتموهم، فإنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم”.

بل إن هؤلاء جميعاً ليكادون أن يتمزقوا غيظاً ويتفطروا حنقاً على أولئك العصاة لا سيما المشركين منهم في كل لحظة غَيْرةً منهم على ربهم ومولاهم، ولا شكّ أنّ الحقّ معهم في ذلك، لكن رحمن الدنيا والآخرة يمسكهم برحمته، ويكبح جماحهم بقدرته، “وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا” [مريم: 88 : 91].

وكم من نبيّ دعا على قومه بالهلاك لمّا كذبوا واستكبروا ويئس من إيمانهم، فهذا سيدنا نوح عليه السلام يدعو على قومه كما أخبر القرآن عنه، “رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً” [نوح: 26]، وهذا سيدنا موسى عليه السلام يدعو، “رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ” [يونس: 88]. ولم يْستثن من هؤلاء إلا نبينا الكريم الذي صبَّ الله رحمته في قلبه صبّاً وملأه ودّاً وحبّاً، فجعله رؤوفاً رحيماً، لذا قسم ذلك اليوم بينه وبينه، فنبينا يقول أمتي وربنا يقول رحمتي، فيالسعادتنا ويالفرحنا بربنا ونبينا، فربنا بيده الأمر وحده ونبينا إليه الشفاعة وحده. فكيف نضيع بين ربٍّ رحيم ونبيٍّ شفيع.

على تلك المكارم وتلك العطايا ينبغي أن يعظم حمدنا ويكثر شكرنا، جاء في الأثر أنه حينما وصل رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى سِدرة المنتهى، وأوحى إليه ربُّه: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تُعطَ، قال: يا ربِّ، إنك عذبت قومًا بالخسف، وقومًا بالمسخ، فماذا أنت فاعل بأمتي؟ قال الله تعالى: أُنزل عليهم رحمتي، وأبدِّل سيئاتهم حسنات، ومَن دعاني أجبته، ومن سألني أعطيته، ومن توكَّل علي كفيته، وأستر على العصاة منهم في الدنيا، وأُشفِّعك فيهم في الآخرة، ولولا أن الحبيب يحب معاتبة حبيبه لما حاسبتهم، يا محمد، إذا كنتُ أنا الرحيم، وأنت الشفيع؛ فكيف تضيع أمتك بين الرحيم والشفيع.

فاللهم لك الحمد على أنك أنت الواحد الأحد الفرد الصمد، ولك الحمد على أن جعلت الأمر إليك وحدك، ولك الحمد على أن جعلت الرزق بيدك وحدك، ولك الحمد على أن اختصصت ذاتك الكريمة بالملك والقدرة والتدبير، فهذا يا ربي ما يطمئننا وبه تسكن أرواحنا، وبه تقرّ عيوننا، وبه تفرح قلوبنا، وبه تصفوا نفوسنا.

زر الذهاب إلى الأعلى