م. خالد محمود خالد يكتب: رجل من زمن الاصول يرسخ ان الأدب يسبق الحرية

في عربة مترو مزدحمة، جلس رجل من زمن الأصول، لا يهم إن كان صعيديًا مصريًا أو حتى أجنبيًا جاء من ثقافة أكثر تحفظًا. ما يهم أنه رأى مشهدًا لم يألفه، فخرجت منه كلمة واحدة قديمة وبسيطة: «عيب». كلمة ليست شتيمة، ولا قانونًا، ولا تهديدًا، بل تعبير فطري عن منظومة تربّى عليها، ترى أن للأماكن العامة حرمة، وللوجود المشترك حدودًا غير مكتوبة.
الواقعة في ظاهرها بسيطة، سيدة وضعت رجلًا على رجل، ورجل علّق. لكن في عمقها، نحن أمام تصادم زمنين لا شخصين. زمن يرى أن الأدب يسبق الحرية، وأن مراعاة الآخرين جزء من الأخلاق، وزمن آخر يرى الجسد شأنًا فرديًا خالصًا لا يخضع إلا لرغبة صاحبه. كل طرف صادق مع نفسه، لكن المدينة لا تُدار بالصدق وحده، بل بالتفاهم.
كلمة «عيب» هنا تستحق التوقف عندها. فهي ليست حكمًا قضائيًا، ولا محاولة سيطرة، بل لغة اجتماعية قديمة، كانت تُستخدم لضبط الإيقاع العام دون استدعاء شرطة أو قانون. من نشأ في هذا السياق، لا يرى نفسه وصيًا، بل مشاركًا في حماية نسيج اجتماعي هش. الخطأ ليس في الكلمة ذاتها، بل في غياب المساحة المشتركة التي تفهم معناها دون أن تشعر بالإهانة.
صحيح أن الحرية الشخصية قيمة أساسية، لكنها لم تكن يومًا مطلقة. الحرية لا تمنحني حق الوقوف أمام القاضي بملابس البحر، ولا تبرر كسر أعراف المكان العام بحجة أن القانون لم يذكر ذلك تفصيلًا. في المقابل، لا تعطي أحدًا حق فرض وصايته أو تحويل ذوقه الشخصي إلى قاعدة ملزمة. التوازن الدقيق بين الأمرين هو ما نفتقده.
ولو كان الرجل أجنبيًا، وشعر أن ما يحدث أمامه يخالف معاييره الأخلاقية، فهل نلومه على شعوره؟ بالطبع لا. الشعور إنساني. لكننا في الوقت نفسه نطالبه، كما نطالب غيره، بأن يفهم طبيعة المكان الذي دخله. غير أن الفارق هنا أن الرجل من زمن الأصول لا يرى نفسه غريبًا عن المجتمع، بل جزءًا منه، يتكلم لغته القديمة، لغة «العيب» لا لغة البلاغات.
المشكلة أن المدينة الحديثة جمعت الناس جسديًا، لكنها لم تجمعهم ثقافيًا. فصرنا نعيش معًا دون اتفاق صريح على الحد الأدنى من السلوك المشترك. وحين يغيب هذا الاتفاق، تظهر الحساسية الزائدة، ويُساء فهم النوايا، وتتحول كلمة عابرة إلى معركة حول الحرية والقمع.
الانحياز هنا ليس ضد المرأة، ولا ضد الحرية، بل مع فكرة بسيطة: أن احترام مشاعر من يعيشون معنا، خاصة كبار السن وأصحاب الثقافات الأكثر تحفظًا، ليس رجعية، بل ذكاء اجتماعي. وأن كلمة «عيب» ليست دائمًا سلاحًا، بل أحيانًا جرس إنذار بأن المجتمع يفقد لغته المشتركة.
في المترو، وفي الشارع، وفي كل فضاء عام، لا نحتاج أن ننتصر على بعضنا، بل أن نُبقي الخيط الرفيع الذي يمنع المجتمع من التمزق. فحين تختفي كلمة «عيب» تمامًا، لا يبقى أمامنا سوى القانون الجاف، وحينها نكتشف أننا خسرنا شيئًا إنسانيًا لا يعوضه أي نص مكتوب.








