يوسف عبداللطيف يكتب : الكذب معول الهدم الأعظم

لم يكن الكذب يومًا مجرد انحراف أخلاقي بسيط، بل هو معول الهدم الأعظم الذي يخترق جسد الأمم من الداخل، يفتك بوعي الشعوب، ويشوه بوصلتها، ويزرع الوهم محل اليقين. نحن في زمنٍ لم يعد فيه الكذب مقتصرًا على الأنظمة الاستبدادية أو الأيديولوجيات الخائفة من النور، بل صار سلعةً جماهيرية، تُبث على الشاشات، وتُروَّج على المنصات، وتُلبَسُ عباءة “العلم” زورًا وبهتانًا. وكأنّ الإنسان الحديث، بكل ما يدّعي من معرفة وذكاء، يختار طوعًا أن يُضل ويُضلل.
ها نحن نعيش مهزلة جديدة، عنوانها “كسوف شمسي شامل يغرق العالم في ظلام دامس يوم 2 أغسطس 2025″، ادّعاء ملفّق، زائف، ملفوف بلغة الدهشة، ومنسوب إلى وكالة ناسا التي لم تقل شيئًا من هذا الهُراء. وبينما الحقيقة العلمية تقول بوضوح إن لا كسوف في هذا التاريخ أصلًا، فإن ملايين العقول اندفعت تصدق وتنشر وتتفاعل… لأنهم يريدون أن يصدقوا. نعم، يريدون ذلك، ويهربون من مسؤولية التحقق كما يهرب الجبان من ساحة المعركة.
لكن المسألة ليست في الكسوف، بل في ذلك الظلام الذي يطمر العقول. الظلام ليس من الشمس، بل منّا نحن. فهل سأل أحدهم نفسه: من الذي يختلق هذه الأكاذيب؟ ولماذا؟ ومن المستفيد؟ إننا أمام منظومة كاملة من التضليل، تُمجّد الجهل، وتُعادي الفهم، وتحترف إدارة الجماهير بالخوف والخرافة. هذه ليست صدفة، بل هي تكرار مُتقَن لما مارسته السلطات الطاغية عبر التاريخ، عندما كان “الكسوف” يُعد نذير شؤم، وتُطلق المدافع وتُطفأ الأنوار، وتُشنق الأبرياء.
تاريخ التضليل طويل، لكنه بات اليوم أكثر وقاحةً، لأنه لم يعُد يحتاج إلى جهاز دولة قمعي أو منابر مساجد مرتعشة أو صحف صفراء، بل يكفي “بوست” مصمَّم جيدًا على TikTok أو Facebook، ليصنع ضجيجًا يُحرك أسواق الإعلام والترويج والتهويل. نحن أمام “إعلام ظلّ”، يُنتج الجهل، ويستهلك الغباء، ويكافئ من يثير الرعب ولو بكذبة. إنه لا يطلب منك أن تفكر، بل أن تشعر فقط، أن ترتعب، أن تعيد الإرسال، ثم تذهب لتكمل يومك وكأن شيئًا لم يكن.
هذه ليست قضية “علم فلك”، بل قضية كرامة عقل. من يقبل أن يُخدع بأكذوبة الكسوف، سيقبل غدًا أن يُخدع بأكذوبة سياسة، أو فتوى، أو رقم اقتصادي مزيف. سيصدق أن الأوطان تُباع وتشترى، وأن الأعداء أصدقاء، وأن التاريخ لا أهمية له، وأن الحقيقة ليست إلا رأيًا بين آراء. إن أخطر ما يفعله التضليل هو سحبك من ساحة الفعل إلى مستنقع التردد، من نور الوعي إلى قبو الهمهمات الرقمية. يقتلك وأنت تظن أنك حيّ.
ولست أكتب هنا بوصفى محايدًا، ولا أزعم أننى أقف على تلة بعيدة أرقب الناس من علٍ. لا، أنا مواطن يرى أن وعي أمته يُخطف أمام عينيه، وأن شبابها يُغذى على الرعب بدل العلم، وعلى الانبهار الزائف بدل التمييز العاقل. إنني أرفض أن تتحول الأكاذيب إلى أعراف، والخرافات إلى “ترندات”، والسذاجة إلى نمط عيش. هذه ليست معركة مع الفلك، بل مع ثقافة الزيف، ومع أولئك الذين قرروا أن يعيشوا على حساب وعي الجماهير.
أيها القارئ، افهم هذا جيدًا: لا أحد آمن من التضليل، ما دمت تستهلك المعلومة دون أن تُراجعها. لا تكن مطيةً لمن يستبدلون الضوء بالظلام طمعًا في “لايك” أو هيمنة أو خرافة تُخدر العقول. لا تسلّم رأسك لأحد، حتى وإن قال “قالت ناسا”، فالحقيقة لا تُساق بالأسماء بل بالبراهين.
إن من يختلق أكذوبة الكسوف هو ذات العقل الذي يزوّر التاريخ، ويحوّر الدين، ويُبدل الحق بالباطل. هو ذات المشروع: تحطيم الوعي، وتسطيح الحياة. فلا تكن أداة في هذا المشروع، ولا تكن رقمًا في صف الغافلين.
ففي زمن يتكاثر فيه الظلام وتتناسخ فيه الأكاذيب، يظل العقل الحرّ هو الشمس الأخيرة التي لا تغرب. ما دامت هناك عقول لا تخشى الحقيقة، فلن يكون للزيف مَقرٌ، ولا للخرافة جذرٌ يستقر.