دين و دنيا

د. حسني ابوحبيب يكتب: عشق الظهور والشهوة اللعينة

قال تعالى فى محكم التنزيل “وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ” [ النساء: 164].

ابتلي كثير من المسلمين في العصور المتأخرة بداء عضال ما سكن قلباً إلا وأماته، وما خالط عملاً إلا وأحبطه، ألا وهو حبُّ الشهرة وعشق الظهور، ويا ليته لم يتفش إلا في عوامّهم، لكننا للأسف الشديد نرى أعراضة ظاهرة واضحة على وجوه البعض من علمائهم، وإذا كان ظهور هذا الداء على المسلم قبيحاً، فإن ظهوره على العالم لا ريب أقبح.

لذا نرى الواحد منهم ما سئل إلا وأجاب وإن كانت الإجابة فاتنة للسائل لأنه ليس أهلاً لها، وما خصه الله بكرامة إلا وعبّر عنها، وهو يريد أن يسرد علمه كله في جلسة لينال ثناء الناس ومديحهم، تراه (نافشاً ريشه) مبالغاً في لباسه، يلبس جبباً (سواريه) يحاكي الملوك بيد أنه صعلوك، وهذا كله علامات جهل ودلائل حمق، ورحم سيدي أحمد بن عطاء الله إذ يقول في إحدى حكمه: “من رأيته مجيباً عن كل ما سئل، ومعبراً عن كل ما شهد، وذاكراً كل ما علم، فاستدل بذلك على وجود جهله”.

ولطالما حذَّرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الداء، وبيّن لنا خطره وعظم فساده لا سيما على الدين، وأنه أشد إفساداً للدين من ذئاب ضارية أطلقت في زريبة غنم لا راعي لها ولا حارس، روى الطبراني في معجه بسنده عَنْ سيدنا أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ سيدنا النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: “مَا ذِئْبَانِ ضَارِيَانِ جَائِعَانِ فِي غَنَمٍ، تَفَرَّقَتْ أَحَدُهُمَا فِي أَوَّلِهَا وَالْآخَرُ فِي آخِرِهَا، بِأَسْرَعَ فِيهَا فَسَادًا مِنِ امْرِئٍ إِلَى دِينِهِ يَبْغِي شَرَفَ الدُّنْيَا وَمَالَهَا”.

إن المراقب لكثير من الناس يرى المنافسة بينهم محصورة في طلب الرئاسة ونيل الشهرة، وكل وسيلة توصّل إلى هاتين فهي مشروعة وإن كانت حراماً، بل ربما ذهب الواحد ممن ابتلوا بهذه الشهوة اللعينة إلى دفع الرُشى بصورها المختلفة ليمدحه المدّاحون على صفحات صحفهم أو على شاشات قنواتهم، وغاب عن أولئك المساكين أنهم بذلك يذبحون أنفسهم، روى الإمام أحمد في مسنده بسنده عن سيدنا مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “إِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ”. كما روى أيضاً بسنده عَنْ سيدنا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا مَدَحَ صَاحِبًا لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: “وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَهُ، إِنْ كُنْتَ مَادِحًا لَا مَحَالَةَ، فَقُلْ: أَحْسَبُهُ كَذَا وَكَذَا وَاللهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا”.

نعم إنها لشهوة ولكنها لا تشبه أي شهوة، فهي شهوة خفيّة، لا يفطن إليها إلا من نوّر الله قلبه، روى الطبراني في مسنده بسنده عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “اثْنَانِ أَتَخَوَّفُهُمَا عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي: الشِّرْكُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ”. وقِيلَ لِأَبِي دَاوُد السجستاني: وَمَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ؟ قَالَ: حُبُّ الرِّئَاسَةِ.

وقديماً قيل: حبُّ الظهور يقسم الظهور. ورحم الله الفضيل بن عياض إذ يقول: “إن قدرت أن لا تُعرف فافعل، وما عليك ألا تعرف؟ وما عليك ألا يثنى عليك؟ وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت محموداً عند الله عز وجل؟”. وكان إبراهيم النخعي يقول: “كفى فتنة للمرء أن يشار إليه بالأصابع في دين أو دنيا إلا من عصمه الله”.

من هنا كان الصحابة رضوان الله عليهم يخشون تلك الشهوة على أنفسهم وإن كانوا أبعد الناس عنها، لذا كانوا يفرون منها ومن كل ما يمكن أن يؤدي إليها، خوفاً على دينهم منها، روى مسلم في صحيحه بسنده عن “عَامِر بْن سَعْدٍ قَالَ: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي إِبِلِهِ فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ، فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ: أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ: اسْكُتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ”.

والقول الكريم الذي صدّرنا مقالنا به يخاطب فيه ربُّنا جل ثناؤه نبيَّنا صلى الله عليه وسلم بأن هناك جملة من الرسل الكرام لم يقصصهم عليه ولا على أحد من العالمين فلا يعرف عددهم ولا قدرهم إلا من أرسلهم، وما يضيرهم ذلك من شيء، بل ولا يُنقص قدرهم ولا يُقلل أجرهم أن لا يعرفهم أحد من الخلق، يكفي أن الله يعلمهم ويعرف قدرهم، فليس من شروط الفلاح عند الله تعالى أن تُذكر الأسماء في مجالس الناس، يكفي ذكرها في الملأ الأعلى، فهي وإن كانت في الأرض منكورة غير أنها في السماء مشهورة، وإن لم تُكتب على أبواب الصحف والمجلات فيكفيها أنها منحوتة على أبواب الجنات.

ما أريد قوله: على المسلم أن يجدّ ويجتهد طالباً أجره من الله وحده، وليحذر على نفسه من تلك الشهوة الخفيّة وأن يُكثر الاستعاذة منها، ولا يغترّنّ بهؤلاء الذين لا يُبالون بدين لنيل دنيا، يتقلبون بدينهم تقلب الليل والنهار، فهم مع كل راكب، إن ركب مؤمن أول النهار آمنوا، وإن نزل وركب كافر آخر النهار كفروا، فهم يتقلبون بدينهم تقلب الصباح والمساء، فقد يصبحون مؤمنين ويمسون كافرين، والعكس، لا تكاد تعرف لهم وجهاً أو تحدد لهم وجهة، وصدق فيهم ذلك الحديث الشريف الذي رواه الحاكم في مستدركه بسنده: “عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ أَقْوَامٌ خَلَاقَهُمْ فِيهَا بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا يَسِيرٍ”.

قَالَ الْحَسَنُ رضي الله تعالى عنه تعقيباً على هذا الحديث: “وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ صُوَرًا بِلَا عُقُولٍ، أَجْسَامًا بِلَا أَحْلَامٍ، فَرَاشَ نَارٍ وَذِبَّانَ طَمَعٍ، يَغْدُونَ بِدِرْهَمَيْنِ وَيَرُوحُونَ بِدِرْهَمَيْنِ يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ بِثَمَنِ الْعَنْزِ”.

ونحن والله قد رأيناهم ربما يبيعون دينهم بلا شيء، ينافقون بلا مقابل، ويكذبون حبّاً في الكذب، وإذا كان أسلافهم باعوا دينهم بثمن العنز فهؤلاء باعوه بنظرة رضا من شقي محروم، أو بابتسامة من جاهل ظلوم.

والحقيقة الباقية أنه لا يبقى ذكر طيب لأحد إلا لمن سار في ركاب الباقي، وما السعيد إلا من تحقق بأخلاق العبيد، ولن يكون فائزاً إلا من كان بالله لائذاً.

فاللَّهُمَّ بِكَ أَعُوذُ، وَبِكَ أَلُوذُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي فِي اللَّهَفِ إِلَى جُودِكَ، وَالرِّضَا بِضَمَانِكَ مَنْدُوحَةً عَنْ مَنْعِ الْبَاخِلِينَ، وَغِنًى عَمَّا فِي أَيْدِي الْمُسْتَأْثِرِينَ، اللَّهُمَّ فَرَجَكَ الْقَرِيبَ، وَمَعْرُوفَكَ الْقَدِيمَ، وَعَادَتِكَ الْحَسَنَةَ يا أكرم الأكرمين.

هذا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

زر الذهاب إلى الأعلى