د.حسني ابوحبيب يكتب: الغيرة والشرف وحمية الجاهلية

“وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ” [هود: 93].
هذا الكلام الطيب الذي تكسوه الحسرة وتغلّفه الندامة، خرج من في نبي كريم هو سيدنا شعيب عليه وعلى نبينا السلام، مصلح مدين وصالحها، بعثه الله تعالى إلى قومٍ ألفوا الغش واستمرأوا الفساد، عشقوا اللهو وأُغرموا بالعناد، عاشوا متنافسين على التكاثر في الأموال، لا يُبالون من أي طريق تأتي، حرامًا كانت أو حلالًا، مع أن الله تعالى أعطاهم منها حلالًا ما يُغنيهم، فلما رآهم نبيّهم على تلك الحالة المذرية التي لا تنتهي بهم إلا إلى الذلِّ والخزيِّ والمهانة، وعظهم بقوله: “بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ” [هود: 86]، فما كان منهم إلا أن سخروا منه وتعجّبوا من أمره، واتهموه في عقله وفهمه، فقالوا له مستهزئين به: “أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ” [هود: 87]، وماذاك إلا لأنهم حسبوا أنّ المال مالهم هم أحرار فيه يُطففون، يبخسون، يغشون، هذا كله لهم، دون أيّ مساءلة أو مسئولية، فما دخل الدين في الاقتصاد ؟!، وما دخل الحلال والحرام في التجارة ؟!!، وما التجارة إلا الشطارة ؟!!!، قالوا هذا الكلام السفيه فهلكوا، ومع ذلك مازال أحفادهم يرددونه إلى يوم الناس هذا.
لما رأى ذلك منهم، بيّن لهم رسالته ووظيفته الإصلاحية التي بعثها الله بها، “يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ” [هود: 88]. ثم أنذرهم من الهلاك الذي أصاب المكذّبين من قبلهم، “وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ” [هود: 89].
لكن أنَّى لمن غلبت عليه شقوته، وحكمته شهوته، وقادته رغبته، أن يسمع نصحًا أو يُبصر رُشدًا، لذا تطاولوا عليه بسيء القول وبذيء الكلام، فقالوا له متجهمين: “ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ” [هود: 91].
فعجب من جرأتهم على الخالق وخوفهم من الخلق، “قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ” هود: 92]. بعدها قال لهم قوله الذي افتتحنا به مقالنا، “اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ”.
بعد هذا العناد جاءهم موعودهم فأخزاهم الله تعالى على مرأى ومسمع من العالمين، فما هي إلّا صيحة واحدة كانت كفيلة بهلاكهم وصيّرتهم أثرًا بعد عين، وكما يقول العوام: [قيل له بخ فمات]، فلقد شاءت حكمة القوي القاهر ألّا يُعذّب المتكبرين إلّا بما يُخزيهم أمام خلقه، فالعذاب الذي أعده الله تعالى للخارجين عن منهجه أصناف، فمنه العظيم، ومنه الأليم، كذلك منه المهين، وكلّ ذلك في كتاب الله تعالى.
قضى الله تعالى في سابق علمه على المتكبرين المتجبرين ألا يميتهم إلا بعد أن يُخزيهم على رؤس الأشهاد في الدنيا قبل الآخرة، “لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ” [فصلت: 16]، فما تجبّر متجبّر ولا تكبّر متكبّر إلا وأخزاه الله في حياته أمام العالمين.
ما أريد قوله من خلال مقالي هذا: إنّه لحريٌّ بنا ونحن نعيش هذه الأيام النحسات، أن نتأمّل قرآننا ونتذكر ماضينا ونراجع تاريخنا، حتى نستطيع الخروج مما نحن فيه من خزي وعار لا يخفيان على أحد من العالمين، فهؤلاء الثلّة من مشرَّدي البشر يعيثون في بلادنا فسادًا يضربون هنا ويُفجّرون هناك دون رادع أو خوف، وكأن بلادنا أصبحت كلأً مباحًا لهم، يضربون من شاءوا ويأخذون ما أرادوا، زد على ذلك يكافؤهم خونة الأمة ودعّارُها بأموال شعوبهم، كأنهم يدفعون لهم مقابل فسادهم وتخريبهم، وهم بذلك مسرورون، بل تُقام لهم الحفلات وترقص لهم العربيات، تلك المرأة العربية التي ما كان يحلم العلج برؤية ظلها !!!.
أين نخوتنا وحميّتنا؟!!!. أين نحن من يوم ذي قار ؟!!!.
يروي الطبري في تاريخه، وابن الأثير في كامله:
أن كسرى أنو شروان اجتمع يومًا مع قادته فتحدثوا أمامه عن جمال العربيات، وكان في مجلسه خائن عربي يُدعى زيد بن عدي، وكانت بينه وبين الملك النعمان بن المنذر خصومه وثأر، فانتهز الفرصة وأخذ يُزيّن لكسرى بنات النعمان، حتى أثار حديثه طمع كسرى، فطلب من النعمان أن يهبه إحدى بناته، لكن النعمان رفض هذا الطلب بشدة، مؤثراً الموت على أن يسلّم حرة عربية لملك غريب. فغضب كسرى، واستدعاه إلى بلاطه، وكان النعمان يعلم أن نهايته قريبة، فاستودع بناته عند هانئ بن مسعود الشيباني، ثم مضى إلى كسرى حيث أعدمه الأخير .
بعدها أرسل كسرى إلى هاني بن مسعود يطالبه بتسليم الفتاة، فأبى عليه، وقال قولته المشهورة: تأبى علينا أنفتنا، وتمنعنا حميّتنا، أن نُسلّم الحرة العربية إلى الأعاجم!!. فغضب كسرى وأمر بإرسال جيش جرّار لإخضاع العرب وجلب الفتاة، وهنا كانت اللحظة الفاصلة، حيث اجتمعت قبائل العرب من كل حدب وتركوا خلافاتهم خلفهم، وجمعتهم الغيرة والشرف.
ودارت معركة عظيمة في أرض ذي قار، كانت من أعنف الوقائع في تاريخ العرب قبل الإسلام، ورغم تفوق الفرس عدداً وعدة، إلا أن العرب قاتلوا بشرف وشجاعة نادرة، وانتهت المعركة بانتصار ساحق للعرب ومقتل قائد الفرس.
كانت ذي قار أول انتصار للعرب على الفرس، ولم يكن ذلك طمعاً في أرض أو مال، بل غيرةً على عرض امرأة واحدة، أثارت نخوة العرب جميعًا.
في ذي قار… سالت دماء، وارتفعت رايات، من أجل صون الكرامة. ولله در الزير سالم ذلك العربيّ الحرّ إذ يقول:
الزير أنشدَ شعراً من ضمائره * العز بالسيفِ ليس العزُ بالمالِ.
حان لنا الآن أن نتذكر أجدادنا وتاريخهم، فما أغنى تاريخنا بالرجال !!!، فإذا ذكرنا ماضينا البعيد تذكرنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الشجعان ومعه لا ننسى أبا بكر وعمر وخالد وسعد والقعقاع وغيرهم، ثم إذا اقتربنا شيئًا يسيرًا ذكرنا المعتصم ونور الدين محمود وصلاح الدين وقطز وبيبرس وغيرهم، ثم إذا اقتربنا أكثر تذكرنا الأمير عبد القادر وأحمد بن بلة والملك إدريس السنوسي وغيرهم، فإذا اقتربنا أكثر وأكثر تذكرنا الزعيم جمال عبد الناصر والرئيس أنور السادات والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والحبيب بورقيبة والملك فيصل بن عبد العزيز والرئيس عبد الرحمن سوار الذهب وغيرهم رحمهم الله تعالى جميعًا.
أما الحاضر فانظروا إلى أسدنا الهصور الذي أبى إلا أن يُسلح جيشه بأحدث الأسلحة رغم الظروف الصعبة التي نمر بها، وهو يقف كالجبل الأشم الذي يهزأ بالعواصف معتمدًا على إيمانه بربه ثم على سواعد شعبه وجيشه [لا شك أن الرئيس السيسي أعني]، ولقد كشفت المحن والشدائد عن شرف موقفه وثباته على مبدأه كما كشفت زيف دعاوى الخونة والأفّاقين. وصدق الله العظيم إذ يقول: “وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ” [محمد: 31].
هذا، والله أسأل أن يكشف الغمّة عن الأمة، وأن يحفظ مصرنا وجيشنا ورجال أمننا وأزهرنا وعلماءنا من كل مكروه وسوء.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د.حسني ابوحبيب يكتب: الغيرة والشرف وحمية الجاهلية