فنونمنوعات

رؤية انطباعية لرواية “بوح الجدران”

رؤية انطباعية لرواية “بوح الجدران”

بقلم د . انجى البسيونى

بالرغم من صداقتى الالكترونية للكاتب والناقد المتميز محمد سمير  فى الفضاء الأزرق ومطالعتى لكتاباته النقدية المائزة البديعة  منذ أمد ليس بالقريب ؛ إلا انى لم يسبق لى أن قرأت له عملا روائيا من قبل، كما أنه ليس بالضرورة لأنه ابن الروائى الأشهر “سمير ندا” الذى تردد صدى اسمه كثيرا فى ساحات الأدب العربى فى سبعينيات القرن المنصرم ؛ ليس بالضرورة أن يكون روائيا مميزا  كأبيه ، ولكن … فى واقع الأمر انى عندما اطلعت على روايته البديعة “بوح الجدران”  ، دهشت لأنى  وجدت نفسي أمام عملا روائيا عميقا متفردا فى تقنياته متقنا فى إخراجه ولغته ، امتلكتنى نصوصه منذ السطر الأول حتى الأخير
بوح الجدران نموذجا بديعا فريدا من أدب الرسائل ، ذلك النوع الذى قل استخدامه فى عصرنا الحديث ، بالرغم من أنه تراث أدبى عريق يضرب جذوره  فى عمق تاريخنا العربى  ، وقد استخدمه العرب قديما كنموذج للأدب  الراقى وله رواده الكبار  ،وذلك  قبل أن يستخدمه  الكتاب الغربين  فى فن الرواية ، لذلك فهى مخاطرة  غير محسوبة من الكاتب أن يعيد علينا هذا النوع من الأدب المندثر  بسبب غلبة  الرقمنة والتكنولوجيا الحديثة التى جعلتنا نودع رائحة الورق وثقافة الطوابع البريدية إلى غير رجعة .

بوح الجدران هو ملحمة شاعرية تتشابك فيها  السير الذاتية للكاتب والتجارب الإنسانية  المزدحمة بالوجع وخيوط من ذكريات بعيدة وقريبة حاصرت وجدان البطل المكلوم ،  ويتقاطع  معها فى  الوقت ذاته  متخيلات سردية بديعة ، ووصف  للأماكن متناهي الدقة مستغرق فى تفنيد  التفاصيل ،  واستخدم  الكاتب عبارات نجحت  فى  وصف المشهد  بحرفية ، وبحروف شاعرية حالمة ونظرة فلسفية عميقة ، و بلغة رصينة متمكنة تخلو من التكلف بالرغم من زخرفتها الرقيقة ، ومعانيها التى تنتزعك انتزاعا لتسرح فيها بلذة المتأمل لا هثا خلف دلالات الحرف  ، فقد كنت أعيد تلاوة النصوص لأستمتع بالمعنى الفلسفى العميق والمبنى اللغوى العبقرى  القادر على سبر غور النفس البشرية وشرح مشاعر الأبطال المكبلة بالحزن  و الاطلاع على أقدارهم الموغلة فى الضيم ؛ ولا سيما  أن مساحة لغة السرد الفلسفية تغلبت على مساحة لغة الحوار مما أضفى على النص عمقا أكبر .

الرواية تتمحور حول ذلك الشاب المدعو  “عطا”
_ الذى نعته الكاتب طوال الرواية بالمسافر _ والذى عاد إلى مصر  للتو من بعد سنوات الغربة فى بلاد العرب المختلفة رفقة أسرته  التى خرج عائلها فى سبعينيات القرن الماضى مع أسرته من مصر بسبب تضيق السلطات عليه من أجل أفكاره  السياسية المعارضة للسلطة ،  ليعانى وأسرته باقى عمره من الغربة والحنين الى ماضيه ووطنه الذى لفظه ذات عناد  ثم تتلقفهم الحروب العربية _العراق وايران ثم العراق والكويت _ ومعاناة الشعوب على إثرها  ، ثم يعود ابنه بطل القصة بعد وفاة والديه ثم زوجته _ إثر مرض خبيث _ باحثا عن وطنه وعن جذوره  وقبلهم منقبا عن هويته التى طمستها أروقة المطارات  ، فاذا بثورة يناير  تخضب ثرى الوطن  بدماء أبنائه الطاهرة  وكأن هناك رابط عجيب بين هذه الأسرة  و بين تقرير المصائر العربية عبر الأزمان المختلفة ، يذهب ذلك الحفيد مخفيا هويته واسمه  لشقة جده الذى أعماه النوح والبكاء على فروعه التى بُترت  منه قسرا وابنه الذى آثر الغربة عن الاغتراب داخل حدود  الوطن  ؛ و مشاعر الحرمان التى استشرت فى أروقة عمره  الطويل  ، وبالرغم من أن الشاب أخفى  حقيقته عن جده إلا أن العجوز  عرف الحقيقة  منذ الوهلة الأولى فلرابطة الدم قوة و سلطان ،  وطوال تلك السنوات العجاف لم يُصبر ويواسي  الجد على فراقهم سوى  تلك الرسائل المسافرة بينهم ذهابا وإيابا  عبر الخرائط العربية قبل أن تنقطع أخبارهم  إثر موت ابنه ، وقد اطلع  هذا الحفيد على   تلك الرسائل  فى شقة جده واشتركنا معه  خلسة فى القراءة  ،  تلك الرسائل  التى تعتبر سجلا وأرشيفا حاضنا لعذابات تلك الاسرة  و المحملة سطورها بأناة الوجع عبر التواريخ المختلفة  ، فتتعجب   كيف أحال محمد سمير ندا قمة البؤس إلى لوحة نثرية جميلة وذروة الألم  الى فراديس بديعة من المشاعر الانسانية  المصاغة بلغة عبقرية !

فها هو هنا يخوض حربا مع الرسائل كتابة وقراءة  فتتساوى أمامه الجدران مع الورق فكلاهما سجلات  تحفظ نقوش الزمن  فيقول هنا الكاتب بلسان الراوى العليم

(ينتهى من كتابته مرة أخرى. كان يبدأ كل رسالة من حيث انتهت آخر الممزقات ، يقرأ ما كتبه أكثر من مرة ثم لا يلبث أن يعيد الكرة ….. ينهض يقترب من كلماته المبعثرة ومشاعره المنسكبة فى طيات الورق ، يرقبها ثم لا يلبث أن يعود أدراجه ، يعيد قراءة الوصية ” ماضاع حق وراءه مُطالب ” يقرأها أكثر من مرة ثم يمسك قلمه ، يكتب بصعوبة على الحائط المتشقق أسفل اللوحة ” فماذا إذا لو ضاع
المُطالب ” )

وفى موضع آخر  تأتى رسالة زوجته التى قرأناها بعد وفاتها  بنفس المرارة التى تجرعها هو بها  :

( وكم من جنان صمت جمعت بين وليفين لغتهما الخرَس ، أزهرت قصائد أدهشت قائليها ، هكذا ولد عشقنا مكتوبا قبل أن يكون منطوقا ……أعرف أن الأقدار لم تكن رحيمة بك ، لا أعرف إن كانت كلماتى تحمل كفرا بالمصائر واعتراضا محرما على الأقدار …… كنت أسمعك تبكى على فراشنا كطفل تائه فى غابة ظلماء ، كنت تحدثنى بصوت دامع فتقول إنك وهبت نفسك لتعوضنى عن ثديي المبتور ، ثم تتوسد أضلعى برأسك كأنك تعنى حرفيا ما تقول )

_وقد استخدم الكاتب تقنيات عدة لم أجد لها مثيل فى عمل روائى عربى ، فقد استخدم تقنية تعدد الأصوات أو تعدد الرواة  ،  ففى فصل يتحدث بتقنية الراوى أو السارد العليم وهو الأكثر شيوعا فى الرواية وتبرز تلك التقنية فى التوطئة للعمل  فى الفصول الأولى ثم تتجلى فى المونولوجات  المتعددة وحديث النفس وما كان يجول  بخاطر شخصيات العمل ،ثم يأتى  فصل آخر يخاطبنا فيه  بتقنية الراوى المتكلم أو ما يعرف بالأنا الثانية للكاتب والتى تكشف خبايا النفوس الخفية ، ثم يتقاطع كل ذلك مع أدب الرسائل التى تبوح بما تنوء به القلوب  وما يثقل الوجدان ، لتجد نفسك متشوقا شغوفا  لمعرفة على لسان من سيكون النص القادم فى الرواية !
و هذا يدل على تمكن و قدرة ومهارة بالغة من الكاتب ؛ وذلك  لأن  نص الراوية متعددة  الأصوات إن لم يقم الكاتب بحبكها وسبكها بمهارة بالغة  وتركيز كبير فسوف يوقع القارىء فى هوة التشتت  والالتباس بين الفصول وهذا مما يحسب لكاتب بوح الجدران ، فبرغم من تعدد الأصوات و تراوح الأزمنة والتواريخ ، والتأرجح الشديد  بين السنوات صعودا وهبوطا ؛ فقد كان محمد سمير ندا دائما يقذفنا للأمام ثم لا يلبث أن يسحبنا للخلف  بقوة طيلة فصول الرواية فنشاهد النتائج قبل بلوغ الأسباب ، ومع ذلك لم نتشتت ولم نتوه بين النصوص والمشاهد ولم تلتبس علينا الفصول  ، ثم تأتى أخيرا روعة دائرية النص لتتصل  النهاية بمشهد البداية بتمكن فنى ودرامى بديع .

سعدت بقراءة هذا العمل وشغوفة لقراءة
العمل القادم لهذا الكاتب المتمكن جدا من أدواته ….  أ .محمد سمير ندا
مع خالص تمنياتى بما تستحقه الرواية من مقروئية و نجاح.

زر الذهاب إلى الأعلى