دين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب: يبقى الحب ما بقى العتاب

“أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ” [الكهف: 50].

ياله من عتاب رشيق رقيق يمس شغاف القلب ويعانق حنايا الوجدان، من ربٍّ كريم ودود حنّان منّان، ذلك الربّ الذي خلقنا في أحسن صورة، وضمن لنا أرزاقنا، وتكفّل بحفظنا، وهو قائم على كل نفس منا بالحفظ والرعاية، قيوم على ما من شأنه بقاء حياتنا من سماء وأرض، وبحار وجبال، نعمه علينا تترى ظاهرة وباطنة، أسبغها علينا وأتمها لنا.

أسجد لنا أشرف خلقه من ملائكته وحملة عرشه، القائمين على ذكره، الدائمين لشكره، المسبحونه الليل والنهار بلا ملل ولا فتور، تشريفاً لنا وتكريماً.

وعندما اعترض ذلك الإبليس على السجود لنا طرده من جنته، وأخرجه من دائرة قربه، وأنزل عليه لعنته دهوراً، وأخرجه من فردوسه مذؤوماً مدحوراً، ولما توعدنا ذلك اللعين بالإضلال والهوان، أجابه تعالى بقوله: “إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ” [الإسراء: 65]، فمهما فعلت فلن تجد لك عليهم سبيلاً، فأنا وكيلهم وحسيبهم “وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً” [الإسراء: 65].

بعد كل هذا الإدلال، نجد طائفة من الغاوين الضالين يُعرضون عمن أكرمهم وأعزهم، ويركنون إلى من توعّدهم الغواية والفقر، ويأنسون إلى من فرّغ نفسه وذريته لاستئصالهم والانتقام منهم لا لشيء إلا لتفضيل ربّهم لهم عليه، “قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً” [الإسراء: 62].

لهؤلاء التائهين ولأؤلئك الغافلين يوجه ذلك الرب الرحيم ذلك العتاب البليغ، عتاب المحبٍّ لأحبابه، لأنهم ما زالوا أحبابه، ويظل العتاب بين الأحباب دليلاً على بقاء المحبة والمودّة، فإذا اختفى العتاب افترق إلى الأبد الأحباب، لذا قيل:

إذا ذهب العتاب فليس ودٌّ * ويبقى الحبُّ ما بقي العتاب.

وكأنه سبحانه يقول لعباده أبعد كل ما فعلته لكم ؟، ومنحته إياكم ؟، أبعد كل هذا التفضيل والإكرام ؟، والحفظ والإنعام ؟، تتخذون عدوّي وعدوّكم الذي طردته من جنتي غيرة مني عليكم، وأوجبت عليه لعنتي لاعتراضه على السجود لكم، وأبعدته لحسده إياكم على رحمتي بكم، أبعد كل هذا ؟ تقتربون منه وتبتعدون عني، تطيعونه وتعصونني، تسالمونه وتحاربونني، تتخذونه وذريته أولياء لكم من دوني بينما هم أعداؤكم.

أي عقل يقول هذا ؟!!، وأي قلب يستجيب لمثل هذا ؟!!، وأي فكر ذلك الذي لا يميز بين الظلمات والنور، ويسوِّي بين الظلِّ والحرور؟!!، حقّاً “فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” [الحج: 46].

إنه لا يقدّم الدنيَّ على العليّ، ويختار الضار ويترك النافع، إلا الظالم لنفسه، الجائر على روحه، فبئس الاختيار اختياره، وبئس البدل بدله، “بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً” [الكهف: 50].

إنّ ذلك الآله العظيم لا ينبغي لنا إلا أن نبجّله ونوقّره، تبجيل المحبين، وتوقير العارفين، لحبه تعالى إيٍانا، وحفظه عز وجل لنا، ورحمته سبحانه بنا، فنحن أحب إليه من نفوسنا إلينا، ورحمته لنا أعظم من رحمة والدينا بنا، فكم من مرّة يقول لملائكته عندما يغضبون لمعصيتنا إيّاه: “دعوني وعبادي، لو خلقتموهم لرحمتموهم، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم”، وعندما أخذ اللعين يتوعدنا بالغواية وعدنا سبحانه المغفرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً: “إنَّ الشيطانَ قال: وعِزَّتِك يا رب، لا أَبرحُ أُغوي عبادَك ما دامت أرواحُهم في أجسادهم، فقال الربُّ: وعِزَّتي وجَلالي لا أزال أغفرُ لهم ما استغفروني”.

يستمر هذا العطف منه جل جلاله بنا إلى أن يُدخلنا به جنته برحمته ومنّه وإنعامه وكرمه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عليه كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ، فيَقولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، ورَأَى في نَفْسِهِ أنَّه هَلَكَ، قالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وأَنَا أغْفِرُهَا لكَ اليَومَ، فيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ”.

أبعد كل هذا العطف من ذلك الإله العظيم وذلك الرب الودود نتخذ عدوه وعدونا وليّاً من دونه، كمن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، إذن “بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً”. إن من يفعل ذلك ويُصرّ عليه ويموت وهو على عناده قائم، وعلى موالاته لعدوه دائم، فهو من الظالمين البائسين، الذين سيحق عليهم قول الله تعالى: “إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً” [الكهف: 29].

نعوذ بالله أن نكون من الظالمين ونسأله برحمته أن يجعلنا له من المحبين، وبه من العارفين، وصلى الله وسلم وبارك على من علمنا حبّ الخير سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

زر الذهاب إلى الأعلى