آراء

م. خالد محمود خالد يكتب: تشويه الوقار وتآكل القيم

لم تكن صفعةُ شابٍ لرجلٍ مسنٍّ في السويس مشهدًا عابرًا، بل كانت صرخةً اجتماعية مدوّية تكشف كيف تحوّل الخطاب الإعلامي، على مدى سنوات، إلى أداةٍ لهدم الهيبة وتشويه الوقار.
فذلك الشيخ الوقور ذو اللحية البيضاء لم يُصفَع لأنه أساء أو اعتدى، بل لأن مظهره الديني وحده كان كافيًا ليستفز العدوان.
صفعةٌ وُجّهت إلى وجهه، لكنها في حقيقتها صفعةٌ لضمير المجتمع كله.

من الشاشة إلى الشارع… حين يصنع الإعلام الكراهية

لم يأتِ التجرؤ على رجلٍ مسنٍّ متدين من فراغ، بل من غطاء إعلامي محرض تراكم عبر السنين.
ففي المسلسلات والأفلام والبرامج الساخرة، صُوِّر صاحب اللحية في قوالب متكررة:
إما إرهابي متشدد، أو منافق يتستر بالدين، أو جاهل منغلق على ذاته.

ضحك الناس، واستساغوا الصورة، حتى تسللت الرسالة إلى اللاوعي الجمعي: أن المظهر الديني خطر، وأن صاحب اللحية موضع ريبة.
وهكذا، جرى تجريد الوقار من معناه، وتحويل رمز التدين إلى مادة تهكم، باسم الفن أو التنوير أو الكوميديا.

الصورة التي شُوّهت

نعم، لا يمكن إنكار أن هناك عناصر شاذة تلوّثت بالرياء أو تاجرَت بالدين أو أساءت إليه باسم اللحية والعباءة،

لكن تلك الحالات — مهما علت ضوضاؤها — ليست هي السمة الغالبة ولا الوجه الحقيقي لأهل التدين.

فالغالبية الساحقة من أصحاب المظهر الديني أناسٌ أتقياء، متزنون، يسعون للخير، ويعيشون في سلامٍ مع الناس.

وإن كان في الجسد شوكة، فالعلاج لا يكون بقطع الجسد كله.
غير أن الإعلام، بدل أن يُفرّق بين الحق والباطل، اختار أن يُدين الجميع، وأن يُحاكم الوقار ذاته وكأنه جرمٌ يستحق السخرية.

وحين تُكرَّر الصور المشوهة بما يكفي، لا يعود التعدي فعلًا فرديًا، بل سلوكًا اجتماعيًا مبررًا.
ذلك الشاب الذي رفع يده على الشيخ لم يفعلها في فراغ، بل في ظل ثقافةٍ صاغها التحريض والسخرية لعقود.

ثقافةٌ تُهمس في أذن الجيل الجديد بأن “الملتحي متشدد”، وأن “المتدين منافق”، وأن “هيئة الشيخ تستحق الاستهزاء وعدم الاحترام”.

تحت هذا الغطاء، سقطت الهيبة، وصار التعدي على رجلٍ في مثل سن الجد أمرًا يُبرر — ولو في اللاوعي — لأنه “صاحب لحية”!

واقعة السويس ليست مجرد جريمة اعتداء، بل مؤشر لانهيار منظومة احترام الرموز.

لقد تآكلت القيم التي كانت تحكم العلاقة بين الأجيال: احترام الكبير، وتوقير العالم، وإجلال من يحمل سمتًا دينيًا.
حين يسقط ذلك كله، يصبح المجتمع كمن كسر مرآته، لا يرى في وجهه سوى التشويه الذي صنعه بيديه.

إن إعادة الاحترام للمظهر الديني لا تكون بالشعارات، بل بإصلاح ما أفسده الإعلام والتربية معًا.

على الشاشات أن تكفّ عن تعميم السخرية من أهل الدين، وأن تُبرز الوجه الحقيقي للتدين: الاعتدال، والرحمة، والصدق.

وعلى المدارس والجامعات أن تُعيد غرس قيمة التوقير في نفوس الأجيال الجديدة.

وعلى الخطاب الديني نفسه أن يُقدّم النموذج المتوازن، حتى لا يُستغل انحراف القلة لتشويه الصالحين جميعًا.

إن صفعة السويس لم تكن ضربة يدٍ عابرة، بل ترجمة لسنواتٍ من التحريض الناعم ضد كل ما هو ديني.
لقد جُعلت اللحية تهمة، والحجاب سخرية، والوقار موضع شك، حتى سقطت هيبة المظهر الديني في الوجدان العام.

لكن لا يزال في المجتمع عقلاء يعرفون أن من أساء باسم الدين شاذٌّ لا يُقاس عليه، وأن الدين الحق لا يختبئ خلف المظاهر، بل يتجلى في الخلق والتسامح والرحمة.

ولعل تلك الصفعة توقظ الضمير قبل أن تُوقظ القانون،
فنستعيد ما ضاع من احترام، ونردّ للدين هيبته، وللمجتمع وعيه،
قبل أن نُفيق على صفعةٍ أكبر، تسقط فيها القيم نفسها.

م. خالد محمود خالد يكتب: تشويه الوقار وتآكل القيم

زر الذهاب إلى الأعلى