آراء

م. خالد محمود خالد يكتب من رُعاة الإبل إلى أمراء حرب وتحوّل السلاح من وسيلة للبقاء إلى لعنة تدمّر وطنًا بأكمله

في قلب إقليم دارفور، كانت القبائل العربية الرحّل تجوب السهول والوديان بحثًا عن الماء والكلأ، تحمل معها تراث البادية وشرف السلاح، وتعيش وفق قوانين الصحراء القديمة: من يعتدي يُرد عليه، ومن ينهب يُلاحق.
لكن هذا السلاح البسيط الذي بدأ للدفاع عن الماشية من قطاع الطرق، سرعان ما تحوّل إلى نارٍ أحرقت السودان كله.

بداية الحكاية

في التسعينات، ومع غياب الدولة عن الأطراف، بدأت القبائل الرحل تسلّح نفسها لحماية قوافلها من اللصوص والعصابات العابرة للحدود. كانت دارفور آنذاك فضاءً واسعًا تتقاطع فيه تجارة السلاح والذهب والماشية، وتختلط فيه العداوات القديمة بالثارات الحديثة.

لم تكن نية الحرب قائمة، بل فقط البقاء على قيد الحياة في منطقة لا قانون لها إلا القوة.

حين دخلت الحكومة على الخط

مع اندلاع التمرد في دارفور عام 2003، وجدت حكومة الخرطوم نفسها في مواجهة عصابات مسلحة تعرف الجبال والممرات الوعرة أكثر مما يعرفها الجيش النظامي.

عندها قررت الحكومة أن تستخدم “أبناء الأرض” أنفسهم — فدعمت القبائل العربية بالمال والسلاح، ومنحتهم الإذن الرسمي للقتال تحت شعار “الدفاع عن القرى ضد المتمردين”.

هكذا وُلدت ميليشيا الجنجاويد، التي تحولت من رعاة رحل إلى قوة ضاربة تثير الرعب والجدل.

من ميليشيا إلى قوة رسمية

مع تصاعد الاتهامات الدولية بارتكاب جرائم تطهير عرقي في دارفور، حاولت الحكومة طمس الاسم المشؤوم “الجنجاويد” ودمجهم تحت مسميات جديدة.
ظهر أولًا “حرس الحدود”، ثم تأسست رسميًا عام 2013 قوات الدعم السريع بقيادة الشاب القادم من دارفور: محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي بدأ حياته تاجرًا للإبل، وأصبح لاحقًا رجل الدولة القوي.

تلقت قواته رواتب وتسليحًا من الحكومة، وشاركت في معارك داخل السودان وخارجه، من بينها حرب اليمن، لتتحول من ميليشيا قبلية إلى جيش موازٍ داخل الدولة.

وحين سقط نظام عمر البشير عام 2019، تغيّر كل شيء.

أصبح حميدتي نائبًا لرئيس مجلس السيادة، يملك المال والذهب والنفوذ. لكن الصراع مع الجيش النظامي سرعان ما اشتعل، خصوصًا مع محاولات دمج قواته داخل المؤسسة العسكرية.

وفي أبريل 2023، تفجّرت الحرب بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، لتدخل البلاد في دوامة دم لا قرار لها.

فالسودان اليوم: اصبحت دولة ممزقة

والخرطوم تحولت إلى أنقاض، ودارفور إلى ساحة حرب مفتوحة.
الجيش يسيطر على الشرق والشمال، بينما تهيمن قوات الدعم السريع على الغرب والخرطوم.

أكثر من عشرة ملايين سوداني بين نازح وجائع ومشرد، والعالم يتفرج على بلدٍ يتفتت تحت ثقل الطموح والسلاح.

من الرعي إلى السلطة، ومن الدفاع إلى الهجوم، سارت رحلة الجنجاويد خطوة بخطوة حتى ابتلعتهم اللعبة التي صنعوها.
قصة الجنجاويد ليست مجرد حكاية عن ميليشيا، بل عن كيف يمكن أن يتحوّل السلاح من وسيلة للبقاء إلى لعنة تدمّر وطنًا بأكمله.

م. خالد محمود خالد يكتب من رُعاة الإبل إلى أمراء حرب وتحوّل السلاح من وسيلة للبقاء إلى لعنة تدمّر وطنًا بأكمله

زر الذهاب إلى الأعلى