المؤثرون.. حين يتحول اليوتيوب إلى عيادة شعبية!

بقلم: د. فتحي حسين
لم نعد في زمن الفضائيات التي كانت تخضع لرقابة الدولة، ولا الصحف التي تمر من تحت أيدي الرقباء قبل أن ترى النور، نحن الآن في زمن «المؤثر»، هذا الذي قد يملك كاميرا موبايل وإنترنت، ثم يتحول بقدرة قادر إلى طبيب، ومهندس، وخبير سيارات، وربما – لا قدّر الله – شيخ طريق! هذا الكلام بمناسبة انعقاد المؤتمر الثلاثين لكلية الإعلام جامعة القاهرة عن المؤثرين والاتصال الصحي خلال يومي 7-8مايو الحالي.
في يوتيوب، تجد من يحدثك عن الطب الشعبي ويصف لك الأعشاب لعلاج الكبد والسكر وضغط الدم، بل وربما «الهمّ» ذاته، وكأنه ابن سينا بعث من جديد، لكن هذه المرة بنقرة “شير” وليس عبر مخطوطات علمية.
اللافت هنا ليس في وجود هذه النماذج، فهي لم تنقطع عن المجتمعات يومًا، بل في كونها تحقق رواجًا وانتشارًا يفوق الجامعات والمعاهد الطبية نفسها. ومن هنا تبدأ الأزمة الأخلاقية التي يجب أن نقف أمامها، لا لنمنع الكاميرا من الدوران، بل لنضبط الإطار قبل أن نفقد الصورة كلها.
أنواع المؤثرين كثيرة، هناك من يتحدث عن السيارات، ويحلل السوق، ويوجه المستهلك للشراء أو الامتناع، وآخرون في الموضة أو التغذية، أو حتى التنمية البشرية. المشكلة ليست في التخصص، بل في مدى صدق المؤثر، وأمانته، وهل يخضع لمساءلة قانونية أم أن الدنيا «سايبة»؟
الثقة لا تأتي بالصدفة، بل تُبنى على مصداقية وتجربة متراكمة. وإذا كان الانتشار هو الموجة الأولى في عالم التأثير، فإن الموجة الثانية الحاسمة هي بناء الثقة، وهنا لا تحتمل المسألة أي «هرتلة». الدولة والمجتمع لا يتحملان أن يتحول كل من حمل كاميرا إلى قدّيس جديد ينثر الفتاوى والنصائح على الناس دون ضابط أو رقيب.
ولعل التجربتين البريطانية والهولندية في هذا السياق تفتحان الباب أمامنا لتصور مستقبل منضبط. ففي بريطانيا، أنشأوا رابطة للمؤثرين، تحظى بدعم الدولة، وتخضع لأطر قانونية وأخلاقية، بل وتقدم لأعضائها نصائح قانونية ونظام تعاقدات وضوابط واضحة، في محاولة لتحويل «الشهرة الرقمية» إلى مهنة تحترم العقل والقانون.
نحن لا نريد أن نحجر على الحريات، بل أن نرتقي بها. المؤثرون يمكن أن يكونوا إضافة حقيقية في حياة الناس، لكن بشرط أن يكونوا مؤهلين، مدرَّبين، ويخضعون لتشريعات واضحة.
فمن غير المقبول أن نترك الدنيا «فرط» بحجة أن كل الناس أحرار، فالحرية لا تعني الفوضى، والانتشار لا يعني الصواب، والتأثير لا يعني الحقيقة.
فإذا كنا جادين في تنظيم هذا الفضاء الجديد، فلا بد من تشريع واضح يُلزم المؤثرين بالإفصاح عن تخصصاتهم، ومصادر معلوماتهم، وطبيعة المحتوى الذي يقدمونه، خاصة في المجالات الحساسة كالصحة والعلاج.
كذلك نحتاج إلى إنشاء كيان مصري مستقل لرعاية المؤثرين وتدريبهم، يكون تحت مظلة الدولة، يضع ضوابط أخلاقية، ويوفر غطاء قانونيًا لهم وللجمهور معًا، تمامًا كما فعلت بريطانيا وهولندا.
المسألة لم تعد رفاهية، بل ضرورة.. قبل أن نصحو ذات يوم لنجد أن “المؤثر” صار أكثر تأثيرًا من الطبيب، والمهندس، والإعلامي، بل وربما من الدولة نفسها!
فهل نحن مستعدون لبدء هذه التجربة؟ أم سنبقى أسرى لكاميرا و«فلتر» وحبة أعشاب؟!