آراء

وائل الغبيسي يكتب قصة ..أول يوم

قرية شبرا النونة بالبحيرة من الأماكن التي تثرى روحك بها؛ فطبيعتها خلابة؛ فبها تزدهر الحقول الريانة، فتنشر رياحينها العبقة في دروبها العتيقة، وتلذ عينيك ببديع خلق الله من طيور مغردة، وأشجار وارفة، وشمس ساطعة. وسط تلك اللوحة الربانية – التي لم يُلوث صباحها الجديد بعد .

 

شُوهد الشيخ مرسى جالسًا – بدار المناسبات العامة – مع رهط من رفاق الحي يناقشون بعض الأمور العالقة كمشكلة الصرف الصحي، وانقطاع التيار الكهربائي، ومياه الشرب؛ حتى اضطر كثير من القاطنين لزرع آلة رفع لا سيما إذا كانوا بالأدوار العليا. شق الأمر على ساكني الحي؛ فتطوع بعض الفضلاء منهم لمناقشة الأزمة ولقاء المسؤولين. وبينما هم كذلك إذ جاءت زينب – ابنة الشيخ مرسى – متوردًا وجهها، وهي تمشى في وقار من تعلم أن والدها رجل دين ذا قيمة تُرجى. قالت بأدب جم، والحاضرون يرمقونها باستحسان وتبجيل:

– ساعي البريد بالمنزل يا أبى، وهو يحمل خطابًا مختومًا.

أمسك مرسى والحاضرون عن الكلام هنيهة. أما مرسى فقد اتقد ذهنه، فطار بعيدًا حتى استوقفه خاطر جميل، فتهللت أساريره. قال لابنته باسمًا:
– اذهبِى يا زينب، ولسوف أعود في إثرك.
بش أحد الرفاق، فقال متهللًا:
– أظنها الترقية التي تنتظرها يا مولانا. أبشر بالخير. ولا تنس رفاقك في الدرب.
قال آخر:
– انتهينا من مشكلة القمامة المتراكمة، لكن يبقى أمامنا معضلة الصرف، ومياه الشرب، والاتصالات، وأعمدة الإنارة التي لا يتم صيانتها حتى تقع الكارثة المحتومة. لا تغب عنا يا أخي.
أومأ الشيخ موافقًا على وعد بالإياب، ثم أسرع خلف ابنته، وقلبه جزل مسرور فغمغم:
– يا فرج الله … أخيرًا.. لا ديون بعد اليوم…” ثم أردف متمتمًا، وكأنه تذكر أنه لم يذق طعم لحم منذ أسابيع، فشرع يناجى أمعاءه الخاوية “هنيئًا لك فرج الله.”.

وصل مرسى لاهثًا. منزله رقيق الحال كصاحبه تتردد فى أصدائه آيات الذكر الحكيم، ويعبق فى جوانبه شذى البخور المستورد من بلاد الحرمين. على أعتاب بيته وجد فتية من طلاب العلم في انتظاره سعيًا وراء تفسير آية كريمة، أو البحث عن مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية السمحة، لَمنزل تتعهده زوجة صالحة – تسمى أم رفيق – لا تقل ورعًا عن زوجها الشيخ مرسى حرى أن يقصده طلاب العلم من كل مكان. صافحهم الشيخ، وطلب منهم الانتظار في قاعة الضيوف؛ ريثما يقابل ضيفه. دلف مرسى إلى الداخل، صافح الساعي بضغطة قوية كعادة بعض الأزهريين وطلبة العلم عندما يتقابلون. يا لفرحته إذ التقى صديقًا قديمًا!، فقال في حبور من عثر على دابته فى فلاة بعد ما استيأس منها:
– ما أضيق الدنيا! صديق الثانوية بمعهد الشهيد عزت النمر بإيتاى البارود … أخي الفاضل عادل السعيد عبيد.. لم أرك منذ وقت طويل.. بالأحضان!
– أخي العزيز وشيخنا الوقور! … ديوان وزارة الأوقاف ينتظرك… أبشر؛ فلقد رُشحتم وكيلًا أولًا بالوزارة عن جدارة واستحقاق، وهذا جواب صادر من مكتب الوزير شخصيًا. أسرع؛ فالكل في انتظارك.. أخباركم وسمعتكم الطيبة قد سبقتكم هناك.

قال الشيخ مرسى وهو يأبى أن يصدق أذنه:
– أنا…
– (ببشر باد) نعم..
– لكن كيف عرفت؟ الأمر مازال طي الكتمان.
– حسناً.. (بفخر بادٍ) لا تخفِ عنى دبة نملة في ديوان الأوقاف، حتى أدق التفاصيل ترد إلىَ.. غدًا ستعلم، وتباركني.
– حمدًا لله.. إنها فرصة لتجديد الأواصر القديمة. هلا دخلت، وتناولت شيئًا؟
دخل الساعي، فحضرت زوجة الشيخ مرسى – التي طرب قلبها، وهي ترهف السمع لكلمات الضيف المبشرة – بصينية عليها من لذيذ الطعام والشراب الذي عُرف عنها مهارتها فى إعداده وتنميقه. كانت جد مغتبطة وهي تمنى نفسها بالطيبات. تناول الساعي شيئًا يسيرًا، وأردفه بشيء يشربه. لكنه رفض أن يأخذ شيئًا على سبيل الهبة ولو من صديقه القديم.
بعد انصراف الساعي قضى الشيخ مرسى وقتًا مع مريديه من طلبة العلم بحجرة المناسبات معطيًا كلًا منهم مسألته، ثم غادروا، ولسانهم يلهج بالثناء والشكر.
نسى مرسى – فى خضم ذلك كله – رفاقه بدار المناسبات حيث كانوا لا يزالون مجتمعين. ها قد دق السرور قلبه!

 

لقد كُتبت له السعادة في اللوح المحفوظ.. فلن يسمع بعد الآن وقاحة عرابدة الحى، ولا إيذاءهم و هم يهمزون” الشيخ راح …الشيخ جاء … بركاتك يا مولانا” فتلك زمرة من الرعاع ما أفلح معهم نصح ولا إرشاد، فلقد كان الخوف كله أن يستشرى عدواهم، فيدهم براءة غيرهم من الشباب اليافع الغر؛ لذا كثيرًا ما شوهد الشيخ مرسى، و هو يحذر سليمى الطوية من الانخراط بهم ، بل لم يفتأ أن يتصدى لصفاقتهم التي طالت الكبير و الصغير، و تعدت على الحرمات ،فانتهكوا الأموال و الأعراض، بل إن منزل عمدة القرية – رضا الشايب – نفسه لم يسلم منهم حتى اقترح الشيخ مرسى يومًا أن يخطروا الشرطة، فتواعد مع بعض صحبه للذهاب عساهم يوفقون في استجلاب قوة أمنية تحفظ المكان ، و تكون لها شكيمة فوق شكيمة الخفراء ، و لكن ما أن علمت بذلك العصبة الباغية حتى قام أشقى القوم منهم – نسيم الأصلابى – بحرق منزل أحد أفراد الوفد التطوعي الذاهب ، بل و شنقه في قائم فراشه؛ كي تكون رسالة شديدة اللهجة، و ردا بليغًا يصفع به لائميه؛ و بذلك تفرق الجمع الذاهب للشرطة، و اجهضت المبادرة في توها.

 

شعر الشيخ مرسى بارتياح شديد لخلوه من المسئولية، أو لخلو المسئولية منه، ولكنه في الوقت نفسه لم يكن ارتياحًا عميقًا يخاطب الوجدان الدافئ الذي طالما بحث عن الصالح العام. اختلجت بداخله مشاعر الفرح مع مشاعر الأسى الناجم عن الهروب الذي لم يألفه. أراد أن يفاتح زوجه بما يشعر به، فقال بفتور وهو يتهيأ للوضوء بغية صلاة العشاء:

– أصبحت وكيلًا أولًا بالوزارة… كم إنني متخوف يا أم رفيق. تركنا ما كنا نؤديه من رسالة وإصلاح، وكأن حكمة الله تقتضي: “لم تعد لي بك حاجة، فاركض فى الدنيا كالوحوش فى البرية” تركناها لنجلس على المكاتب نأمر وننهى! أهكذا وصل بنا الحال؟!
قالت الزوجة مهدئةً من روعه:
– تلك فرحة رجوناها منذ زمن بعيد. وقد أتت إليك دون رشوة، ثم إنك لجدير بها، فلا تقتل نفسك كمدًا. نحتاج هذه الهدية الربانية؛ لنكمل مشوارنا بالحلال، ونصلح أحوالنا؛ فولدنا الذي يدرس الدكتوراة بألمانيا لا يكفيه النذر الزهيد الذي نرسله إليه، وابنتنا تهيأت لتكون عروسًا كما ترى، ونحن نرد العريس تلو الآخر.

نظر إليها الشيخ مرسى باطمئنان:
– بارك الله لنا فيك. وأنعم بك من زوجة صالحة! خشيت أن تذكري لي السيد البنوانى مدير شركة الاتصالات السابق، وصفوت الزيات مراقب أول شركة المياه، وغيرهم مما يزكم عفنهم الأنوف.
قالت الزوجة بتأفف:
– نستعيذ بالله من شرورهم. ربنا يجملها بالستر.
علا صوت المؤذن يصدع بالنداء، فشرع الشيخ مرسى في الوضوء، وخرج ميممًا شطر المسجد. الطقس يجود بنسيم تهفو له الأنفس، وترتاح له القلوب العامرة بالإيمان، كأنما جاء ليكفر ما ابتدر من بنى آدم على أديم الأرض، وفي جو السماء، وأعماق اليم. المسجد يجاور ترعة صافية على مائها ترى صفحة وجهك إذا ما رنوت إليه. وقد تسمع أحيانًا نقيقًا للضفادع يشبه ترنيمة التسابيح فى جوف الليل الساكن. تلمع من بعيد أعين المصليين بجلبابهم الأبيض الناصع، وهم يمشون بوقار، وسكينة استجابة لدعاء السماء. تلمح صبية يتخللون الطرقات الترابية – التى تطوع بعض المصلين برش الماء عليها ليسكن أديمها – ملبين النداء فرادى وجماعات فى وقار مرددين مع المؤذن صوت الحق.

 

بالطريق قابل مرسى رفاق دار المناسبات ممن جلسوا معه لمناقشة الخلل القائم بالقرية سعيًا لإصلاحه. لدى خروجهم من الصلاة – وبعد مغادرة المسجد – لاموه لعدم حضوره ثانيةً؛ مما جعلهم يئدون المهمة التي أنيطت بهم في مهدها. اعتذر إليهم؛ موضحًا أن ذلك راجع إلى نسيانه غير المقصود.
أما الشيخ مرسى فلم يهدأ له بال، ولم يقر له جفن بليلٍ، فسُلب النوم من عينيه سلبًا – مع ما به من وصب – فجعل في فراشه يتقلب يمنةً ويسرةً، فعيناه اشتد بهما سهاد لا يعرف كنهه. أتكون سعادةً وطربًا لمنصب جديد؟! أم حيرة وهمًا لترك مهمة طالما حملها على عاتقه شوطًا من الدهر ليس بقليل؟! ومن يحملها إذا عافاها الشيخ مرسى وهو حافظ لكتاب الله، ومطبق لأحكامه المنزلة؟! غادر فراشة نحو الصالة الرحيبة، فتبعته أم رفيق – وقد جفاها سلطان النوم أيضًا – وقد اتصل بها جانبًا لا بأس به من المشقة التى اجتاحتها لكثرة أعمال المنزل زيد فيها ما أرق مضجعهما الليلة. جلسا يناقشان ما ألقته عليهما الوظيفة الجديدة من أعباء، فقال مرسى موضحًا:
– سأحتاج حلة فاخرة إن لم تكن اثنتين، ومبلغًا من المال لا بأس به؛ أتهيأ به فى أول أيام عملي؛ فلكل مقام مقال، ولن تصلح الدراجة المتهالكة التى كنت أذهب بها إلى مسجد “ذو النون” خطيبًا.
قالت الزوجة مصححة:
– أظنك تقصد عباءة جديدة؟ ألست أزهريًا؟
– بلى.. سأرتدي واحدة لا ريب، ولكن هل سأسير مرتديًا إياها بالطريق العام يا عزيزتي؟!(ثم قال مصححًا) إنما جُعلت؛ لتُرتدي داخل دور العبادة كالمساجد ومكاتب العمل الرسمية. أتحدث عن “بذلة” يا عزيزتي.

قامت أم رفيق تنقب الدولاب؛ بحثًا عن شيء مناسب، وأخيرًا وجدته أسفل كومة من الملابس العتيقة التى يدخرها للمناسبات الخاصة. التقطت الحلة، وبحثت لها عمَّا يناسبها من القمصان، وشرعت تصلح ما اعتراهما من تكسير مستخدمةً مكواة قديمة. ارتدى مرسى الحلة، وجعل يطرح عليها بعض الجمل الرنانة التى سيبدأ بها لقاء الغد مع الموظفين، وهي تعجب له وتشجعه، ثم دخلت المطبخ تجهز المشاريب من أجل المهنئين القادمين غدًا.

وفى مساء اليوم التالي اكتظ البيت بالمحبين والأصدقاء الذين آثروا ألا يفوتهم شرف التهنئة الحارة، وبطبيعة الحال كان على رأسهم رفاق مرسى الذين يقضى معهم بعض وقته. وكان ممن آثر الحضور أيضًا أولئك الفتية الذين ترعرعوا على يد الشيخ مرسى في مسجده الشهير “ذو النون” وفي حجرة الجلوس الرحبة بمنزله حيث كثيرًا ما كان يُسمع لهم دوى كالنحل عند تلاوة القرآن. حضروا باكين منهمرة دموعهم. قال لهم الشيخ مقدرًا لهم رقة مشاعرهم وحنانهم، وهو يربت على أكتافهم:

– على رسلكم. كنتم خير نشء اعتاد الصلاة في المساجد وعمَّر قلبه بكلام الله، وأذكار رسوله. لقد كنت معكم مؤازرًا ومشجعًا، ولكنكم ما كنتم تفعلون ما تفعلونه ابتغاء وجه الشيخ مرسى ولا غيره؛ إنما كان ابتغاء وجه الله، أليس كذلك؟
كفكف الصبية دموعهم. قال أحدهم وهو يجاهد ابتسامة حيية:
– على يديك عرفنا حب الخير، وأصول الدين، وطاعة الكبير، والعطف على الصغير، وبر الوالدين.
قال آخر:
– ألا تذكر يا مولانا أنك كنت تشجعنا على المجيء للمسجد ببضع تمرات، وأحيانا حلوى طيبة.
قال آخر:
– وأحيانًا قمت بعمل حلقات التحفيظ القرآني على نفقتك الخاصة، ومن وقتك الثمين.
ابتسم الشيخ وقال:
– كلنا جند من جنود الله مثل الجندي في الميدان، وهذا دورنا. وسيكون لكم دور عظيم أيضًا.
صاح فتى وقد تذكر شيئًا:
– وأحيانا يا شيخنا كنت تنادى أسماءنا في “الميكروفون” فيسمعها الأهل في البيوت؛ فيبشون لنا، وقد سمعت أمي اسمي غير مرة؛ ولطالما كانت حبورة.
قال آخر متوجسًا:
– الآن سيتعرض لنا أولئك الشبان الضالون الذين دأبوا على التنمر علينا في السابق. كانوا يخشونك إذا رأوك قرب المسجد.

هنا طار خيال الشيخ مرسى ليسبح في ماضٍ ليس ببعيد.. في ليلة كان فيها غاديًا إلى المسجد، وإذ به ينقذ ولدًا يافعًا من براثن أولئك المردة، ودائما ما كان يسأل ” من لهؤلاء الصعاليك؟ من يقدر على الزج بأسمائهم فى دواوين الشرطة؟ من يضمن العواقب؟!” وقد حدث أن تجرأ أحد الآباء، فأقسم ليذهبن بنفسه لقسم الشرطة، ولكنه لم يكد يصل الشارع الذي يقطنه عائدًا من القسم حتى سمع نبأ ذبح ولده، فهرول كالمجنون في الطريق. ” حقًا من لهؤلاء الأطفال … ومن لغيرهم؟ إنه الله. ”

 

ثم أفاق على سؤال الفتى يكرره” ما العمل يا شيخنا؟
– قال مرسى باثًا الأمل، وقد افاق من غفوته:
– ثقوا بالله.. لا تثيروا غضبهم، وسيروا في الطريق جماعات؛ وسيخشونكم. كما إني سآتي إليكم من حين لآخر، ولو لزم الأمر سأبلغ الشرطة” ثم قال مازحًا ” ألا تعلمون أنى جار للوزير الآن؟!
لكن ذكر كلمة الشرطة قد دهم قلبه، وباغته بخاطر مرعب… أيأمن على ابنته وزوجه؟! فما هو بأحسن حظًا من ذاك الذي فقد رقبة ولده. ود لو لم ينبس بتلك الكلمة.

قضى الأولاد وقتا طيبًا في حضرة الشيخ شاركوا فيها مع الآخرين لطائف، وفقرات، ولذيذ طعام. كما قدموا ما لديهم من ابداعات، وآيات في بدء وختام الأمسية.
بعدما انفض السامر جلس كلُّ من مرسى وأم رفيق يحصيان “النقطة” التى آلت إليهم من المهنئين، وشرع يكتبها. قال:
– كلها ديون علينا لكنها سوف تفك خناق أزمة وشيكة. على تدبر سيارة بالأجر؛ لأذهب إلى العمل ريثما استعلم عن وجود سيارة في ديوان الوزارة لمن يشغل تلك الوظيفة أعاننا الله عليها، وجعلنا نرعى بها حق العباد.

بينما هم كذلك إذ دق جرس الباب، فإذا أحد المهنئين قد عاد. ظنه الشيخ نسى شيئاً، فحدجه بدهشة، وكان الوقت جد متأخرًا.
– خيرًا يا أبا سعيد؟ أنسيت شيئًا؟
انكمش الرجل، وتوارى يسرة؛ كي لا تراه السيدة بالداخل. كان في ارتباك باد، لكنه تشجع بابتسامة ترقرقت في عيني الشيخ مرسى فقال:
– لا…. لم أنس شيئًا، لكن اسمح لي بكلمة صغيرة.

دخل الرجل وتبعه مرسى إلى قاعة الجلوس.
– ألف مبروك يا مولانا. لقد فرحت لك كثيرًا، وقلت إن منصبك الجديد لن ينفعك وحدك بقدر ما سينفع من حولك. لم أستطع أن أخلو بك؛ لذا وجب على أن أعود.
– حقًا. ولكن ماذا تقصد يا أبا سعيد؟ ألك حاجة؟
استجمع الرجل قواه الخائرة، ثم قال:
– تعلم أن سعيدًا – ابني – حاصلًا على كلية الهندسة قسم كهرباء بامتياز، وإلى الآن لم يُرزق بعمل حكومي، أو خاص، أو حتى عقد عمل. طرق كل الأبواب. تطارده لعنة قديمة تعلمها.

– فعلًا… خاله.. مراد السفياني، ولكن قد مر زمن بعيد على ذلك.
أطرق الشيخ، كأنما أخذته سنة، فسرح بخاطره متذكرًا كم للإنسان من تأثير على أخيه الإنسان؛ فخال سعيد – المجرم – مع أنه توفى منذ عقود – إلا أنه لا يزال يقف حجر عثرة فى كل باب يسلكه الفتى… تبًا! ما جريرة الغلام اليافع حتى يتحمل وزر آخر؟! ألا ينبغي تغيير تلك الشريعة الباطلة؟! ثم استدرك الشيخ قائلًا كأنما يحاول التفكير فى إيجاد مناص ممكن:
– لكن ماذا يمكن أن أقدم؟
– سوف تجلس مع كبار الناس من وزراء وغيرهم من أصحاب الحل والربط ورجال الأعمال، ويمكنك أن تذكر سعيد عندهم، فأنت تعلم الحال والله إننا….. إننا
ثم اختنق الرجل في عبراته، ولم يكمل، فربت عليه مرسى قائلًا:
– سوف أفعل ما بوسعي، ولا تقلق. لا تبك يا رجل … أرجوك.

كفكف الرجل دموعه بملابسه، ثم أعطى مرسى ورقة بها مظلمة سعيد، فأخذها منه بعدما لثمها، وقال:
– يعينني القادر المقتدر على قضاء هذا الأمر.
مر يومان، وفي فجر اليوم الثالث ذهب مرسى في سيارة يقودها شخص اكتراه لهذا الغرض، ثم أوصاه أن يوقفها أمام مبنى ديوان الوزارة بعيدًا عن طريق الناس. طلب منه الانصراف على أن يعود عندما يهاتفه في المساء. على باب الوزارة وجد رجلي أمن، فأعطاهما هويته، ورحبا به أشد ما يكون الترحيب، ثم اصطحباه إلى الداخل. ما أبهاه من مشهد، ولو أنه لم يسعَ إليه! …. خُيل له أن معه اثنين من حراس العصور الوسطى في انتظاره، وآخر يمهد له الطريق، وآخر يحرسه، وآخرين بالموكب السيار في انتظاره.

وبينما يهم بالصعود للموكب السيار أفاق على لكزة شديدة من أحد الأشخاص.
– أعميت؟ ألا ترى يا هذا؟!
دعكَّ مرسى عينيه ولكنه لم يصدق ما رأى. ما كل هذا الزحام في ديوان الوزارة؟! باعة جائلين يفوق عددهم العشرات. أتراه أخطأ المكان؟ ولكن اللافتة بالداخل تقول: “إلى مكتب فضيلة وزير الأوقاف” اجتهد أن يمر من بينهم فلم يفلح فعاد بعدما أتلف له الباعة حلته، فذبلت أناقتها ورونقها. عاد للحارسين بالخارج؛ يطلب منهما تأويلًا لما يحدث. قال أحدهما:
– هؤلاء باعة يفترشون ساعتين قبل قدوم معالي فضيلة الوزير، ويتسوق منهم موظفو الديوان، ولا يعلم بأمرهم أحد.
رمقه مرسى باستهجان، ثم قال بحزم:
– عليك بإخراجهم، ويجب ألا يعودوا. يمكنهم البيع في الخارج، وعلى من يرغب الشراء أن يذهب إليهم. أفهمت؟ هيا.
تشاجر الباعة مع الحارسين، وعلا ضجيجهم:
– نريد الأرضية.
– دفعنا مبلغًا كبيراً لقاء ذلك.
– نحن نفعل ذلك كل يوم. ماذا جرى الآن؟
– هددهم مرسى بطلب البوليس؛ فخرجوا ناكسي رءوسهم، ثم قال للحراس بنبرة صارمة مستنكرًا فعلتهم:
– ردوا عليهم ما أخذتموه منهم، وإياكم أن تعودوا لمثله.
أذعن الحراس على مضض:
– أوامر سيادتكم مطاعة.

سار مرسى في طريقه، وهو يقول: “لا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم اغْفِرْ لي ذنبي…. ما أن تخيلت أمرًا خاصًا يغضب الله حتى حدث ما حدث”. ثم جلس على مكتبه، ووضع رأسه بين راحتيه، وشرع يحوقل. مر الوقت، وتدفق العمال والموظفون أسرابًا كالفراش المبثوث … علم الجميع بقدوم الوكيل الجديد – وكانوا مترقبين مقدمه – فدخلوا عليه مهنئين، ومعهم من الهدايا ما يثقل كاهلهم، فقال لهم الشيخ في دعة:

– أشكركم على كل حال. أما عن هذه الهدايا فيمكنكم الحضور بها بعد أن اتقاعد، واترك الخدمة نهائيًا، ووقتها سأكون ممتنًا لكم كثيرًا.
انصرف العمال مجللين بخزي من اكتشف مكرهم، وأفسد عليهم مخططاتهم لاحتواء وكيل جديد كسابقه. استقر الشيخ مرسى خلف مكتبه الفاخر. جال ببصره فى ربوع الغرفة الفسيحة. شتان بينها وبين غرفة الإمام رقيقة الحال فى مسجده السابق “ذو النون”، فالحالية تتفوق على سابقتها المتهالكة بمسجده لا محالة. لا ريب عنده أن مكتب الوكيل يُعد قطعة فاخرة من قصر ملكي منيف. إنه ليشمل تكييفًا، وتلفازًا، وأطباق للضيافة، وأرائك وثيرة، وثلاثة أجهزة تليفون بخطوط مجانية فضلًا عن حارسين وساع.

 

ما أبهاها من حياة! ولكن ما لا يروقه أنها لا تدوم، وستحين ساعة يغادر فيها ذلك النعيم، كما يغادر الحي بهجة الحياة إذا وُسِّد التراب. بعدما هدأت الأمور، وانساق كل موظف إلى مكتبه، فأصبح المجال كخلية نحل، وتبادر الموظفون كل منهم إلى مكتب رئيسه يرفع تقريرًا، أو يحصل على توقيع، أو يطلب فتوى من المشايخ. هنا لاحت للشيخ مرسى خاطرة وهي لماذا لا يباغت الموظفين؛ فيقف بنفسه ويستجلى حقيقة الأمور؛ فلا يليق به أن يلتصق بمكتبه تاركًا الحبل على الغارب. دار على المكاتب محفزًا أحيانًا، ومشددًا أحيانًا أخرى. أما الموظفون فقد علموا بدهائهم المتقد أنه سيعرج عليهم؛ لذا أخذوا حذرهم، فعاد من اعتاد منهم المروق بالخارج إلى مكتبه يباشر أعماله، وتفانى من كان يتراخى. ثم ما لبث أن عاد الشيخ مرسى ثانيةً إلى مكتبه. لم يكد يسترد أنفاسه حتى طرق أحدهم باب مكتبه؛ ليضع “كرتونة” قائلًا:
– كل عام وفضيلتكم بخير يا مولانا…شنطة رمضان.. فرمضان أوشك أن يهل علينا. ربنا لا يقطع لكم عادة.
– وأنتم طيبون. ممن تلك النفحة المباركة؟
– جمعية “أكفل يتيم تدخل الجنة” للأيتام المعاقين.

دهش الشيخ مرسى؛ إذ كيف تقوم جمعية تتكفل بالأيتام المعاقين بتبديد هباتها على من هم ليسوا أيتامًا معاقين. أمر أن تجمع الحقائب الرمضانية، وترد إلى الجمعية؛ ليعاد توزيعها على الأيتام الحقيقيين، وأن يُؤخذ تعهد بعدم جواز حدوثه لاحقًا. حمل الرجل الحقيبة الرمضانية، وتوجه بها إلى الخارج تمهيدًا لجمع ما ذهب إلى أيدي موظفي الديوان والمشايخ. بيد أنه عاد سريعًا، لاهثًا، هلعًا. وقف أمام الشيخ مرسى الذي بدا مندهشًا أكثر. قال مرسى مستوضحًا:
– ما الخطب إذن؟
– لقد رفض الموظفون التخلي عن حقائبهم يا فضيلة الإمام؛ فهم يعتبرونها حقًا مكتسبًا لهم. برأيي يمكنك أخذ عيونهم أفضل.

– كيف هذا؟ إذا كان رجال الأوقاف والمشايخ لا يتورعون عن الشبهات، فماذا يبقى من الدين ليقتدي بنا العوام؟!
– يمكنك يا شيخنا أن تقف على جلية الأمور إذا أردتم.
– ليكن.
بدأ الشيخ يطوف على المكاتب فرأى عجبًا.. في أحد المكاتب داهم بعض الموظفين آخرين رشقًا بقوارير الزيت وقطع الصابون؛ لأن البعض قد اختص نفسه بزجاجة زيت زائدة، أو قطعتين من الصابون كبير الحجم. كان التراشق على أشده حتى كادت قطعة من الصابون تشدخ رأس الشيخ مرسى، وتصيبه برضوض خطيرة. ثم ما لبثوا أن امسكوا، ولزموا مكاتبهم، فجُمعت الحقائب، وأُحيل المذنبون للتحقيق. في مكتب آخر قام بعض الموظفين بالسعي على المكاتب؛ لبيع ما أصابوه من حقائب رمضانية، وقد أُحيلوا للتحقيق أيضًا لتقاعسهم عن أعمالهم الأصلية. وفريق ثالث حجبوا المواطنين ممن يفدون إلى الديوان لإنجاز أعمالهم في صالة بالخارج؛ ريثما ينتهون من تسلم حقائبهم التي كانت تتم في ستار كثيف من المشاجرات والتراشق بالألفاظ.

 

كان لابد على الشيخ مرسى أن يضع حدًا لذلك وقد كان، ثم عاد أدراجه إلى مكتبه، وجبينه يتفصد عرقًا مكلومًا مما رآه ” كيف يستبيح رجال الله أموال الناس؟! وكيف لا يجدون في أنفسهم وازعًا يكفهم عن التمادي في الباطل؟!” بهذا اللون من تقريع الضمير صاح مرسى فجأة كأنه يحاسب نفسه، ويعدها متواطئة. كان الساعي يقف بالباب من الخارج، فسمع الشيخ مرسى يزمجر حانقًا:
– ليت الأمر يُحل بالتحقيق، ولكن مما لا شك فيه أن هؤلاء البشر دأبوا على ذلك، ولن ينتهوا إلا إذا أصابتنا جميعًا قارعة بما كسبت أيديهم. أين الضمير؟ أين؟

هنا دلف الساعي للداخل مسرعًا ظانًا أن مرسى يطلبه، ثم تبعه أحد الموظفين من قسم المحاسبين تصادف مروره وقتذاك. تسمَّر الساعي والمحاسب أمام مرسى الذي استشاط فأرغى وأزبد. لم يجرؤ أيُّ منهما أن ينبس بكلمة من الممكن أن تقض مضجعه، وتورده المهالك. قال لهما مرسى، وهو يتمكن من ثورته رويدًا:
– أين الضمير؟ أريد تفسيرًا لمَا يحدث.
وجم الاثنان هنيهة، فأعاد مرسى ما قاله بصوت عال:
– هيا.. تكلما.
تقدم المحاسب وأمسك بأذن مرسى هامسًا؛ فاستشاط مرسى حنقًا، وزمجر قائلًا:
– أي أن هذه الحقائب تتحصلون عليها بهتانًا! تحصلون على تبرعات من الناس الذين يثقون بكم، وبدلاً من أن تودعوها دار الأيتام تغلفونها بغلاف أثيري جذاب، وترسلونها إلى من لا يستحقها وهو أنتم … هل أنتم ممن يستحق الزكاة في الأساس؟! ليس هذا فحسب، بل إن الموظفين الذين يقومون بذلك مقصرون في أعمالهم بالديوان هنا بحجة إشرافهم على دار الأيتام.. حقًا إنه لعمل شريف في الظاهر، ولكنه غير شريف في الخفاء.

 

أرسل في طلب رئيس الشئون القانونية.
حضر رئيس الشئون القانونية الأستاذ فرج أبو الليف – وكان موظفًا ممتلئًا بدنه تفوح رائحته الشذية؛ لتنم عن شخص أنيق الهيئة – وقرر فتح تحقيقًا موسعًا من الغد مع نفر من موظفي الديوان الذين تسببوا في حدوث فوضى بخروجهم عن مقتضى الواجب الوظيفي بجمعهم بين وظيفتين، بل وتربحهم من وظيفة من المفترض أنها تطوعية.

 

انتهى التحقيق وعاد الهدوء مرة أخرى، ولكنه كان هدوءًا استثنائيًا، أو بالأحرى سحابة صيف توشك أن تنقشع؛ ذلك أن رماد الكارثة لا يزال يتأجج، فمر المتقاعسون تباعًا على مكتب المحقق، ومنحوه مبلغًا طمسوا به ما اقترفوه من جرم. مر زهاء ساعة، ثم سُمع صوت جلبة شديدة، وصياحٍ عالٍ يأتي من خارج المبنى، غادر الموظفون مكاتبهم، وقد ركبهم قلق بالغ، وتوجس شديد. علت الأصوات التي دلت على قرب أصحابها من الباب الرئيسي المؤَمن جيدًا:
– يا حرامي. يا من أخذت شقي عمرنا. أخرج إلينا قبل أن نحرق المكان على من فيه!
– يا لص!
– أيها المحتال!
– يا عالم محتالة!
– حسبنا الله ونعم الوكيل!

قام مرسى من مكتبه منزعجًا، وسأل عن معالي الوزير، فقالوا إنه لم يصل بعد؛ فحمد الله، ثم استدعى السكرتير العام مستوضحًا عن سبب تلك الجلبة. قال السكرتير بصوت يشبه الهمس، وكأنه يخشى التحدث:
– هؤلاء من أماكن مختلفة بالدولة، وكانوا قد دفعوا مبالغ طائلة للوكيل السابق أملًا فى ايجاد عملًا مناسباً لهم، ولكن قد علمت أن الوكيل ذهب لقضاء عمرة ومنها إلى لندن منذ شهرين.
– تعنى أنه فر هاربًا بأموال الناس؟!
لم يجب السكرتير؛ فعلم مرسى أنَّ ثمة جريمة محققة. أمسك مرسى عن الكلام كأنه يأبى تصديق ما يسمع، ثم عاد مستوضحًا أكثر:
– كم كانت قيمة المبالغ المدفوعة كلها؟
– نصف مليار جنية مصري.. لم يعد منها جنيه واحد.
دق مرسى على المكتب، ثم قال بتوتر ينم عن ضيق:
– أهذه أول مرة يأتون هنا؟
– لا.. ولكنهم لم يكونوا بهذا العنف من قبل. هذا أول يوم تتصاعد فيه الأزمة، وقد صادف قدومكم للأسف.
سرح مرسى هنيهة، وغمغم ساخرًا ” أول يوم!” ثم عاد متسائلًا:
– هل سبق أن قابلوا الوكيل السابق؟
– لم يقابلوه، ولكن المبالغ كانت تصل إليه من خلال الشيخ هاني جبر.
– أحضر لي هاني فورًا.
– للأسف يا مولانا إنه بالسجن الآن على ذمة القضية.

 

شعر مرسى بثقل الأزمة التى يواجهها، والتي ألفي نفسه فيها بلا ترتيب مسبق. عليه أن يتدبر أمره؛ فهذا اختبار حقيقي، ويمكن أن يعصف به من الوظيفة، وهو مجلل بخزي شديد هو منه براء، فجلس مع بعض من توسم فيهم الخير من رؤساء الأقسام فتشاوروا معًا. انتهى الاجتماع القصير إلى ضرورة أن يرسل للمحتجين شخصًا عاقلاً يهدأ من روعهم، ويعلم نواياهم، ويحاول التوصل لترضية ممكنة.
ختم الشيخ مرسى اجتماع العشر دقائق بكلماته:” يحضرني هنا موقف الحسن رضى الله عنه، وابن الزبير، ومن ثاروا عليهم.”.

بالخارج لم يفلح المندوب المُرسل مع ثوار غاضبين فقدوا جُلَّ ما يملكون فى لحظة تخيلوا فيها أنهم سينالون شيئًا ذا قيمة، ولكن لم يحصلوا إلا على وهم كبير باتوا ضحيته. بمرور الوقت لم يعد هناك حيزُ للعقل، فعصفت الجماهير الغاضبة بالمندوب وأوسعته ضربًا، ثم تدفقوا إلى الداخل يسطون على كل ما يقابلونه، ويضربون بشده من يعترض طريقهم، وقد قذف أحدهم مرسى نفسه في عينه، ففقأها.

ثم حضر أحد العمال وهو يصرخ:
– أدركوا سيارة فضيلة وكيل الوزارة الجديدة، فقد أُضرمت فيها النيران!
نسى مرسى ألم عينيه، ودارت رأسه، خُيل له أنه يرى أشقياء القرية، وأكابر مجرميها بعين شامتة، وقلوب تتراقص جزلًا، ثم بدوره يرى بعض لائميه ” ألم نقل لك لا تقبل المنصب.. لقد زججت بنفسك فى عش الدبابير.” هنا سقط مغميًا عليه، وأقدام المتناحرين تغشاه. لاحقًا أفاق في المستشفى ليجد نفسه أمام زوجه، وابنته، وفضلاء الحي، ثم خرجوا ودخل الضابط ومعاونيه. طلب منه الضابط بعض المعلومات التى تساعد فى التوصل إلى الجناة الذين أضرموا النيران في كامل المبنى، وقطعوا أسلاك الكاميرات، وحطموا أجهزة الحاسوب بل، وأدموا وجهه.

 

انتهى اللقاء، وخرج الضابط، فناداه مرسى، وهو يجاهد ألمًا متصاعدًا:
– حضرة الضابط.. لي رجاء..
– تفضل.
– مع أول يوم عمل كوكيل أول بوزارة الأوقاف من المقام الرفيع أناشدك أن تنقل لمعالي الوزير- الذي لم أره – رغبتي. أود أن يكون ثاني يوم لي بعد مغادرة المستشفى في مسجدي القديم – ذو النون – فهو بهشاشته وبساطة حاله أفضل كثيرًا من القصور المنيفة. حقًا.. ألا سحقًا للترقيات!

زر الذهاب إلى الأعلى