آراء

الشيخ أشرف سعد الأزهري يكتب: النموذج المعرفي والتكوين العلمي من يغلب من؟

تحصيل العلم أي علم يكون بواسطة دراسة مجموعة من القضايا والأفكار والمسائل بواسطه منهج منضبط وإذا تمت العملية التعليمية بصفاتها وشروطها المعتبرة في الطالب والكتاب والمؤسسة أو الأستاذ المعلم فإنها جديرة بأن تخرج لنا متخصصا بدرجة ما في هذا العلم…لكن مجرد سلامة العملية التعليمية لا يكفي في توظيف العلم توظيفا أخلاقيا وقيميا صحيحا بحسب الغاية الأخلاقية التي وضع كل العلم لتحقيقها..لنضرب لذلك مثلا بعلم الطب علم وضع لأجل تحقيق السلامة الجسمانية للخلق وتخفيف الآلام والأوجاع عنهم ولنضرب مثالاً بثلاثة أطباء تخرجوا في كلية طب واحدة بدرجة علمية واحدة وبكفاءة واحدة أحدهم عنده مع ممارسة المهنة وتحصيل الرزق هدف ورسالة مثل تخفيف الألم عن الناس ومساعدة المحتاجين والفقراء فتراه وقد يساهم مع بعض المرضى من ذوي الحاجة في تكاليف العلاج أو يعالجهم مجانا لأنه كطبيب رسالي يرى أن المهنة لها جانب قيمي وأخلاقي لا تنفك عنه وهذا ما يعرف بالنموذج المعرفي المتكامل الجامع بين الأخلاق والعلم… وأما الثاني فلا هم له إلا تحصيل المال ولكن من حلال فتراه لا يتعاطف مع أي مريض فقير ولا يتنازل عن أجره مهما كان ظرف المريض لكنه يؤدي عمله بكفاءة وأمانة فهذا حمار العلم والمهنة لا يوجد عنده هدف ولا رسالة لكنه لا يؤذي الناس في صحتهم نموذج معرفي مادي متجرد عن الأخلاق والقيم وأما الثالث فقد استغل مهنته وعلوم الطب في تحصيل المال الحرام فأصبح يعمل في تجارة الأعضاء أو تركيب المخدرات مستغلا علمه في هذا العمل الإجرامي نموذج معرفي شيطاني متجرد عن أية قيمة أخلاقية ولا هم له إلا تحصيل المال الحرام الثلاثة علماء أكفاء لكن الذي اختلف هو النموذج المعرفي الأخلاقي الذي يحرك كل واحد منهم ويوظف علومه ومعارفه من أجل تحقيق الغاية التي يراها….ولنضرب مثلا آخر بثلاثة علماء من علماء الشريعة الإسلامية تكونوا بشكل صحيح في جامعة واحدة أما الأول فسخر علمه لتعليم الناس وهدايتهم ولتربية طلاب وطالبات العلم ونشر الخير وعمارة الأرض النموذج المعرفي السلوكي الأخلاقي الذي يحيا به هو أن العلم الشرعي وظيفته تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية التي نص عليها في كتاب الله تعالى تحقيق الأمن والسلامة والحفاظ على الأرواح والمهج وأن الإنسان بنيان الله تعالى ملعون من هدمه والثاني عمل لأجل الدنيا وتحصيل الأجر المادي والثالث سخر علمه في نشر الإرهاب وفتاوى القتل والخراب والنموذج الثالث وإن كان نادرا إلا أنه يجب الاعتراف بأنه موجود ولنستبعد الآن النموذج الثاني ولنعقد المقارنة بين النموذج الأول الرسالي الأخلاقي والنموذج الثالث السياسي المؤدلج الذي سخر علمه في نشر الخراب والفوضى مطوعا كل قاعدة علمية وكل دليل شرعي في خدمة ما يرمي إليه من قتل وخراب ولنكشف عن الأسئلة التي تدور في أنفسنا لكننا قد نخشى من التصريح بها… أليس هذا النموذج الثالث عالما محصلا ما حصله الأول من علوم ومعارف ؟ والجواب بلى. إذن فما بال الأول سخر علمه في إعمار الأرض ونشر الخير وحفظ الأمن والأمان والاستقرار والآخر سخر علمه في عكس ذلك تماما وهانت عليه الدماء في سبيل تحصيل غايته السياسية التي يراها دينية…. والجواب أن هناك شيئا ما يتحكم في توجيهنا وفي استعمالنا وتوظيفنا لعلومنا ومعارفنا المكتسبة (وهي واحدة ومتكافئة تقريباً عند الطرفين) إما في طريق الخير أو في طريق الشر ألا وهو النموذج المعرفي وهو مجموعة القيم والأخلاق والمثل التي تكونت منه شخصية ذلك العالم فحيثما كان العالم قد ربي سلوكيا وأخلاقيا على تعظيم حرمات الله وتعظيم شأن الدماء والأرواح وحرمتها وأن نبل الغاية لا يبرر قذارة الوسيلة وأن رسالة الإنسان في الحياة هي إعمار الأرض بالعمل وذكر الله وعبادته وأن الإنسان بنيان الله تعالى وأن الأمر كله بيد الله لا حول ولاقوة إلا به وأن شأن الأمة الإسلامية عند الله تعالى عظيم فيجب الحفاظ على أمنها ووحدتها وسلامتها وأن الإنسان مطالب بالسعي في الإصلاح قدر طاقته وليس مطالبا بتحقيق التغيير أو التمكين فكل ذلك بحول الله تعالى وحده.
كان هذا النموذج المعرفي الصوفي بهذه المكونات القيمية منتجا لكل ما يحقق الأمن العام والاستقرار والذكر والفكر والعبادة مع العمل بكتاب الله تعالى ظاهرا وباطنا إنه نموذج إعمار الأرض وتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية وأهمها حفظ النفوس.

وأما إذا كان العالم قد تكون أنموذجه المعرفي بطريقة أيديولوجية على منهج جماعات الإسلام السياسي المكون من أفكار مثل الحاكمية وجاهلية المجتمع وحتمية الصدام وضرورة منازعة الأمر أهله لتحصيل السلطة لأجل إقامة الشريعة والعدل في الأرض مهما كلف ذلك من صدام ودماء أو فتن وحروب وأن طبقة الحكام ومعاونيهم ليسو من جسم الأمة فهم ما بين ظالم أبدا أو كافر بلا مرية وأن الرعية دائما معصومة لا تخطيء أبدا هذا النموذج المعرفي الثوري بصوره المتعددة يتحكم في توظيف وتوجيه علم العالم وفتاواه وآرائه والعلم هو العلم لكنه التوظيف بحسب النموذج المعرفي الكامن في قلب العالم ووجدانه حتى إنه ليسخر كل ما تعلمه من علم في نصرة قضايا نموذجه المعرفي.
فالنموذج المعرفي إذن أو مجموعة القيم الأخلاقية التي كونت وجدان العالم هو الذي يتحكم تماماً في تحريك المنظومة العلمية بتمامها أو مع إعمال بعضها وإهمال بعضها حسب الحاجة……ومن وجهة نظري أن النموذج المعرفي الصوفي متسق تماما مع المنظومة العلمية الشرعية بجميع علومها وتفاصيلها فالقيم الصوفية تمثل الإصلاح الروحي والنفسي والمجتمعي وتنظر إلى المجتمع بجميع أطيافه حكامه ومحكوميه نظرة واحدة من حيث حب الإصلاح لهم وبهم وإرادة الخير وبذل النصيحة والحاصل من هذا أنهم لا يطلبون السلطة ولا يعادون الحكام ولا يألبون الشعوب على حكامهم ولا يثورونهم أو يستثيرونهم وإن كانوا أي العلماء يقومون بواجب النصح للحاكم والمحكوم على السواء ولا يخلعون يدا من طاعة عملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (السمع والطاعة وإن جلد ظهرك وأخذ مالك) لأن مفسدة الخروج والعصيان والفتن والتقسيم والتشريد أكبر ألف مرة وأعظم من مغبة الظلم وأخذ المال…..أما النموذج الآخر فجعل تحصيل الحكم لتحقيق ما يتوخاه من تطبيق شرع أو تحقيق عدل غايته فتوسل لذلك بالصدام مع الحكام ومن يعاون الحكام فأفتى بقتالهم وإهدار دمائهم حتى لو كان من يوافق الحاكم من أكابر العلماء والأولياء إنه النموذج المعرفي يا سادة وعند الله تجتمع الخصوم.

زر الذهاب إلى الأعلى