آراءدين و دنيا

د.حسنى ابوحبيب يكتب : سفهاء القوم

قال تعالى فى محكم التنزيل ” إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ” (البقرة: 130).جاء في لسان العرب: اﻟﺴﻔﻪ ﻭاﻟﺴﻔﺎﻩ ﻭاﻟﺴﻔﺎﻫﺔ: ﺧﻔﺔ اﻟﺤﻠﻢ ، ﻭﻗﻴﻞ: اﻟﺠﻬﻞ ﻭﻫﻮ ﻗﺮﻳﺐ ﺑﻌﻀﻪ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ. وفي المعجم الوسيط: ﺳﻔﻪ ﺳﻔﻬﺎً ﻭﺳﻔﺎﻫﺎً ﻭﺳﻔﺎﻫﺔ: ﺧﻒ ﻭﻃﺎﺵ ﻭﺟﻬﻞ ، واﻟﺴﺎﻓﻪ: اﻷﺣﻤﻖ ، واﻟﺴﻔﻴﻪ: ﻣﻦ ﻳُﺒﺬّﺭ ﻣﺎﻟﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻻ ﻳﻨﺒﻐﻲ.

وموسيقى الكلمة وجرسها يدلان على ذلك كله ، فلفظها واسمها ينبئان عن وضاعة معناها ، وطيش موصوفها ، لذا قال الشاعر:ﻗﻞ ﻟﻠﻔﺮﺯﺩﻕ ﻭاﻟﺴﻔﺎﻫﺔ ﻛﺎﺳﻤﻬﺎ * ﺇﻥ ﻛﻨﺖ ﺗﺎﺭﻙ ﻣﺎ ﺃﻣﺮﺗﻚ ﻓﺎﺟﻠﺲ.

ومن سفهوا أنفسهم هم كثر في دنيا الناس ، فلا ينقطع في عصر من العصور نقيقهم ، وأينما توجهت فلا يؤذي سمعك إلا نهيقهم ، لا تكفّ عن الحركة ألسنتهم ، ولا تنقطع عن الكلام أفواههم ، فإن ذهبت تحصي ما قالوه لا تجده إلا لغواً باطلاً ، أو هذراً قاتلاً ، وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه عنهم وعن كثرة لغوهم وكذبهم ، فقال تعالى: “سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ” (البقرة: 142) فجاء التعبير بالمضارع من الفعل ليدلّ على استمرار لغوهم وكذبهم ، أي سيقولون في كل عصر ويتكلمون في كل مكان.

يخرجون علينا ما بين الفينة وأختها ، فيهرفون بما لا يعرفون ، لا يتورعون عن الكلام في أي علم ، حتى إن منهم من يتجرأ على كتاب الله تعالى ، وهو لا يحفظ منه آيتين ولا يعي معناهما ، ولا يعلم مراميهما ، يتكلمون في الكتاب وهم أبعد الناس عنه ، ويخوضون في تفسيره وهم ألد الأعداء طرّاً له ، يُحرّفونه عن مواضعه ، يقولون فيه بأهوائهم وآرائهم ، وما عرفوا أن من قال في القرآن برأيه فهو مخطئ وإن أصاب ، قال صلى الله عليه وسلم: “ﻣﻦ ﻗﺎﻝ: ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺏ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﺑﺮﺃﻳﻪ ﻓﺄﺻﺎﺏ ، ﻓﻘﺪ ﺃﺧﻄﺄ” (سنن أبي داود) ، وقال أيضاً: “ﻣﻦ ﻗﺎﻝ ﻓﻲ اﻟﻘﺮﺁﻥ ﺑﻐﻴﺮ ﻋﻠﻢ ﻓﻠﻴﺘﺒﻮﺃ ﻣﻘﻌﺪﻩ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺭ” (سنن الترمذي).

ومنهم من يتكلم في السنة ، وما يريد إلا هدمها ، فتارة ينكرها ، وأخرى يريد أن يستغني بالقرآن عنها ، أبطرتهم النعمة ، وأذهبت عقولهم التخمة ، وغرّتهم الدنيا بزخرفها ومباهجها حتى أنستهم آخرتهم ومآلهم ، وقد أخبرنا عنهم منذ مئات السنين من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم في قوله: “ﺃﻭﺗﻴﺖ اﻟﻜﺘﺎﺏ ﻭﻣﺎ ﻳﻌﺪﻟﻪ – ﻳﻌﻨﻲ ﻭﻣﺜﻠﻪ – ﻳﻮﺷﻚ ﺷﺒﻌﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺃﺭﻳﻜﺘﻪ ﻳﻘﻮﻝ: ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻭﺑﻴﻨﻜﻢ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎﺏ ، ﻓﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺣﻼﻝ ﺃﺣﻠﻠﻨﺎﻩ ، ﻭﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺣﺮاﻡ ﺣﺮﻣﻨﺎﻩ ، ﺃﻻ ﻭﺇﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ….” (السنن الكبرى للبيهقي).

ولقد كثر في دنيانا هذه في العصور المتأخرة المتأخر أهلها المحلّلون الذين يتكلّمون في كل شيء ، وكذا المفكرون الذين يدّعون فهم كل شيء ، والخبراء الذين لا يغيب عنهم شيء ، فجميعهم في الدين يفتون ، وللسياسة يُدرّسون ، وهم لعلمي الاقتصاد والاجتماع حافظون ، ولعلم القانون واعون ، وفي الطب والهندسة متخصصون ، وللفن والأدب والثقافة وغيرهم من علوم الدنيا والدين أساتذة بارعون ، وما أصدق قول شاعرنا السوري حسام الدين جلول إذ يصور لنا واقعنا وما وصلنا إليه شعراً فيقول:

الكلُّ في هذي الديارِ مدرّسٌ * والكلُّ فيها شاعرٌ وأديبُ
والكلُّ إنْ شئتَ البناﺀَ مهندسٌ * والكلُّ إنْ شئتَ الدواﺀَ طبيبُ
والكلُّ في علمِ الحديثِ مُحَدِّثٌ * والكلُّ في علمِ الكلامِ خطيبُ
والكلُّ قدْ درسَ الحقوقَ وعلمَها * والكلُّ في علمِ القضاﺀِ رهيبُ
والفقهُ عندَ الناسِ أمرٌ هيّنٌ * فالكلّ يفتي دائمًا ويصيبُ
ما عادَ في هذي الديارِ تخصّصٌ * هذا لعمري مُخْجِلٌ ومُعِيبُ
لو كلّنا عَلِمَ الحدودَ لعقلهِ * ما عاثَ فينا جاهلٌ وكذوبُ

وإن حققت فيمن هذه صفاتهم عرفت أنهم على وجه الحقيقة حمقى مغفلين سفهوا أنفسهم ، وهم في مجملهم كالرجل الذي قص علينا قصته ابن الجوزي في كتابه الحمقى والمغفلين ، حيث يروي لنا فيه عن الجاحظ أنه قال: ﺩﺧﻠﺖ ﻭاﺳﻂ ﻓﺒﻜﺮﺕ ﻳﻮﻡ اﻟﺠﻤﻌﺔ ﺇﻟﻰ اﻟﺠﺎﻣﻊ ، ﻓﻘﻌﺪﺕ ، ﻓﺮﺃﻳﺖ ﻋﻠﻰ ﺭﺟﻞ ﻟﺤﻴﺔ ﻟﻢ ﺃﺭ ﺃﻛﺒﺮ ﻣﻨﻬﺎ ، ﻭﺇﺫا ﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ ﻵﺧﺮ: يا أخي ﺇﻟﺰﻡ اﻟﺴﻨﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﺪﺧﻞ اﻟﺠﻨﺔ ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ اﻵﺧﺮ: ﻭﻣﺎ اﻟﺴﻨﺔ يا أخي ؟ ﻗﺎﻝ: ﺣﺐّ (ﺃﺑﻮ ﺑﻜﺮ) ﺑﻦ ﻋﻔﺎﻥ ﻭﻋﺜﻤﺎﻥ اﻟﻔﺎﺭﻭﻕ ﻭﻋﻤﺮ اﻟﺼﺪﻳﻖ ﻭﻋﻠﻲ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺳﻔﻴﺎﻥ ﻭﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺷﻴﺒﺎﻥ. ﻗﺎﻝ: ﻭﻣﻦ يا أخي ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺷﻴﺒﺎﻥ ! ﻗﺎﻝ: ﺭﺟﻞ ﺻﺎﻟﺢ ﻣﻦ ﺣﻤﻠﺔ اﻟﻌﺮﺵ ﻭﻛﺎﺗﺐ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﺧﺘﻨﻪ ﻋﻠﻰ اﺑﻨﺘﻪ ﻋﺎﺋﺸﺔ ، فقال له: ما أعلمك يا أخي بالأنساب !!!!.

إن هذه المضحكات المبكيات ، لما كثرت في واقعنا كثر معها بين الأمة الخلاف والجدل ، ووقع بها الشقاق والخلل ، في حين أنه لو سكت هؤلاء الحمقى لسقط الخلاف.

هذا ، وعلى الرغم من أن ديننا الحنيف علّمنا أن نسأل أهل التخصص فيما نريد علمه من أمور ، “فاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” (النحل: 43 ، الأنبياء: 7).

وكثيراً ما أظهر لنا رسولنا الكريم قيمة التخصّص ، وأوجب علينا أن نقصد أهله ، روى الطبراني في أصغر معاجمه: “ﻋﻦ ﺟﺎﺑﺮ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ اﻷﻧﺼﺎﺭﻱ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺁﻟﻪ ﻭﺳﻠﻢ: ﺃﺭﺣﻢ ﺃﻣﺘﻲ ﺑﺄﻣﺘﻲ ﺃﺑﻮ ﺑﻜﺮ ، ﻭﺃﺭﻓﻖ ﺃﻣﺘﻲ ﻷﻣﺘﻲ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ اﻟﺨﻄﺎﺏ ، ﻭﺃﺻﺪﻕ ﺃﻣﺘﻲ ﺣﻴﺎء ﻋﺜﻤﺎﻥ ، ﻭﺃﻗﻀﻰ ﺃﻣﺘﻲ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ ، ﻭﺃﻋﻠﻤﻬﺎ ﺑﺎﻟﺤﻼﻝ ﻭاﻟﺤﺮاﻡ ﻣﻌﺎﺫ ﺑﻦ ﺟﺒﻞ ﻳﺠﻲء ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﺃﻣﺎﻡ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﺑﺮﺗﻮﺓ ، ﻭﺃﻗﺮﺃ ﺃﻣﺘﻲ ﺃﺑﻲ ﺑﻦ ﻛﻌﺐ ، ﻭﺃﻓﺮﺿﻬﺎ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﺛﺎﺑﺖ ، ﻭﻗﺪ ﺃﻭﺗﻲ ﻋﻮﻳﻤﺮ ﻋﺒﺎﺩﺓ ، ﻳﻌﻨﻲ ﺃﺑﺎ اﻟﺪﺭﺩاء ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻢ ﺃﺟﻤﻌﻴﻦ”.

فكأنه صلى الله عليه وسلم يقول: من ابتغى علم القضاء فعليه بعلي ، ومن طلب علم الفقه فليسأل معاذاً ، ومن أراد علم القراءات فليقصد أبيّاً ، ومن عزم على علم الفرائض فليجلس إلى زيد ، أما من حُبّب إليه الزهد والعبادة فخير من يفيده عنهما أبو الدرداء.

على هذا المنهج سار خلفاؤه ووارثوه من بعده ، روى الحاكم في مستدركه: “ﺃﻥ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ اﻟﺨﻄﺎﺏ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺧﻄﺐ اﻟﻨﺎﺱ ﻓﻘﺎﻝ: ﻣﻦ ﺃﺭاﺩ ﺃﻥ ﻳﺴﺄﻝ ﻋﻦ اﻟﻘﺮﺁﻥ ﻓﻠﻴﺄﺕ ﺃﺑﻲ ﺑﻦ ﻛﻌﺐ ، ﻭﻣﻦ ﺃﺭاﺩ ﺃﻥ ﻳﺴﺄﻝ ﻋﻦ اﻟﺤﻼﻝ ﻭاﻟﺤﺮاﻡ ﻓﻠﻴﺄﺕ ﻣﻌﺎﺫ ﺑﻦ ﺟﺒﻞ ، ﻭﻣﻦ ﺃﺭاﺩ ﺃﻥ ﻳﺴﺄﻝ ﻋﻦ اﻟﻔﺮاﺋﺾ ﻓﻠﻴﺄﺕ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﺛﺎﺑﺖ ، ﻭﻣﻦ ﺃﺭاﺩ ﺃﻥ ﻳﺴﺄﻝ ﻋﻦ اﻟﻤﺎﻝ ﻓﻠﻴﺄﺗﻨﻲ ﻓﺈﻧﻲ ﻟﻪ ﺧﺎﺯﻥ”.

سأل رجلٌ الإمام مالكاً عن شيءٍ متعلق بالبسملة ؛ فأحاله على الإمام نافعٍ ؛ وقال له ولغيره: سلوا عن كلّ علمٍ أهلَه ، ونافعٌ إمامُ الناس في القراءة.

من هنا كان من أوجب الواجبات على المسلم في هذا الزمان أن يحترم عقله ، ويكف لسانه فلا يتكلم إلا فيما يعلم ، طلباً لمرضاة الله تعالى.نسأل الله تعالى أن يردنا أجمعين لدينه رداً جميلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى