أهم الأخبارمنوعات

كتاب للسفير جمال أبوالحسن.. ” 300,000″ عام من الخوف: البشر من بداية الكون للتوحيد.. فنتازيا أدبية تمزج الواقع بالخيال


كتب: محمد حربي
” 300,000″ عام من الخوف: البشر من بداية الكون للتوحيد.. فنتازيا أدبية تمزج الواقع بالخيال الكون إلى التوحيد”، للأديب السفير جمال أبوالحسن، حتى يتأرجح بك المؤلف، على حبال الفكر، وكأنك أمام نموذج مشابه لرواية ” عزازيل” المثير للجدل، للمؤلف الدكتور يوسف زيدان، حيث يعيش القارئ الحيرة، فيما إذا كانت تجارب حقيقية، أم من نسج الخيال.. إنه نوع بارع من الفانتازيا الأدبية.
    وما أن تبحر بين شاطئي رواية الأديب السفير جمال، من نقطة القلق، التي تعيد إلى ذهنك فكرة رواية الأديب الكبير توفيق الحكيم ” بنك القلق “، حتى تتلاطمك أمواج مخزون ثقافي لمؤلف، تارة يقدم لك نفسه كبروفيسور في تاريخ القانون، وأصل نشأن الإنسان، وأحيانا تشعر أنك أمام أبوعلم الاجتماع، وهو يتحدث عن أصل تكوين المجتمعات ” أبن خلدون”.. وتزداد دهشتك حينما يحدثك في النظريات الاقتصادية، وكأنه تلميذا لأبوعلم الاقتصاد ” سميث”، فإذا حلق بك في فضاء الجينات، والجينوم، واللغة والشفرة، اعتقدت… واعتقدت… واعتقدت…..
“القلق والفيروسات ”
  عبر ثلاثمائة وثمانون صفحة، يختزل لنا الأديب السفير جمال أبوالحسن، تاريخ الكون، وقصة البشر، في عشر رسائل متبادلة، بينه وبين أبنته ” ليلى”، بطلة القصة، والتي بدأت مع ” القلق “، وإن شئت قل: حالة الرعب، والفزع، التي عاشها العالم، في مواجهة فيروس كورونا ” كوفيد 19″، وخيم شبح الهلاك على الناس جميعا، وظن كل منهم بأنه لا منقذ له، اللهم إلا من ربط الله على قلبه، وكان من الناجين.
  مع القلق من جائحة كورنا، يكشف لنا المؤلف، أن الفيروسات ” منها أكثر من 100 مليون نوع”، هي بطل قديم منذ مليارات السنين، تلك الشفرة الخفية، ليست رهن المصادفات، بل لعبة لها قواعد .. فالفيروس الذي هدفه العدوى، أكثر منه قتل الضحية، وهذا يرجع إلى أنه لا يتكاثر بذاته، ولكنه يبحث عن خلية، والحياة تعني التفاعل بين عناصر كيميائية.
“الخلية والتنوع ”
 يلفت المؤلف أنظارنا إلى حقيقة علمية، عن الخلية، كوحدة وقاسم مشترك، بين الكائنات الحية جميعا، نبات، حيوان، إنسان، وهي أصل كل التنوع البيولوجي في عالمنا، وقد تلخص قصة البشر، الذي تعلم منها فكرة الجدار الذي يعزلها عن محيطها فيما يسمى بالغشاء، فصنع بدوره بيوتا لها جدران، تفصله عن المحيط، كما أحاط المدن بالأسوار، لتحافظ على نفسها في مواجهة الأعداء.
  ينبهنا المؤلف إلى أننا نعيش عصر المعلومات، واللغة المكتوبة تمثل شفرة، ووسيلة للتعبير في صورة رمزية، وأن الصراع من أجل البقاء، يرجع إلى قلة الموارد، كما أن قصة الحياة على الأرض تعتمد على الطاقة، التي هي والماء تشكل الكون، حيث تمثل المادة الشئ الملموس، بينما الطاقة، القوة الخفية غير الملموسة، وإن كنا نشعر بها في كل شئ من حولنا، وفي داخلنا، وربما يفسر هذا سر عبادة الشمس، باعتبارها مصدر الطاقة، وكانت النار أول ثورة تكنولوجية، وضرورية لتشكيل المعادن، والنار المقدسة لا تنطفئ في المعابد، .
“الترحال والاستقرار”
 بعد حياة الترحال، يصل بنا المؤلف، إلى الاستقرار، وننتقل من الصيد والالتقاط إلى الزراعة، وكان الكلب أول حيوان يستأنسه الإنسان قبل 15 ألف سنة، وأول المدن ظهرت في بلاد الرافدين، بين نهري دجلة والفرات، خلال الألفية الرابعة قبل الميلاد، وكانت إشكالية المجتمعات القديمة، افتقادها إلى سلالم للصعود الاجتماعي، وظلت فكرة الهيكل التراتيبي، ودور الكهنة كوسطاء بين الناس والآلهة، مع أن الدولة أكبر من كل البشر، ودونها كل شئ قابل للتغيير، من الحاكم، للأعلام، للأناشيد الوطنية.
  يحكي لنا المؤلف، تاريخ الكتابة، الذي بدأ بالرسم، والتصوير، قبل أن يعرف الأبجدية، التي كان أو من ابتدعها الفينيقيون في لبنان، من 22 حرفا، ومنها ولدت جميع الأبجديات المعروفة تقريبا، ثم تلقفوها اليونانيون عام 800 قبل الميلاد، واضافوا لها حروف متحركة آرامية وعبرية، ثم جاءت الأبجدية العربية من نفس الرحم .
“شفرة الأبجدية ”
    وعند الأديب السفير جمال أبوالحسن، فإن شفرة الأبجدية العربية، تنقل الأفكار من شخص لآخر عبر الرسائل النصية ” الأدمغة”.. فالأفكار تنتقل بالإشارة شفهيا عبر اللغة، ورمزيا عبر الكتابة، ورقميا عبرة شفرة بيت أي ” صفر، واحد “، وأن البشر لا يتطورون بالجينات، بل بالثقافة، أي تبادل المعلومات في الجماعة البشرية، وعبر الأجيال.. وأن أي لغة بشرية لها ثلاثة أركان هي:  الأول: الصوتيات.. الثاني: تركيبات يخترعها البشر لترمز لشئ معين.. الثالث: القواعد.
     أمام واحدة من أهم الإشكاليات التي تؤرق الفكر أحيانا، يناقش الأديب السفير جمال أبوالحسن، الشفرة الجماعية ” اللغة، القيم، الثقافة”، ومشاكل المهاجرين، وهذا التنافر بين الشفرة الاجتماعية التي يحملونها معهم، وتلك السائدة بين أبناء المجتمع الذي هاجروا إليه، بحيث أنهم إذا تمسكوا بشفرتهم وجدوا أنفسهم غرباء عن المجتمع الذي هاجروا إليه، وإن هم تخلوا عن شفرتهم واستبدلوها، صاروا غرباء عن أنفسهم .
   وفي مشهد جديد، نعيش مع المؤلف، نظام المقايضة في العصور القديمة، قبل أن تظهر ” شفرة النقود”،  كأداة اجتماعية ، عرفتها بلاد الرافدين قبل 3000 عام قبل الميلاد، وكانت مملكة ” ليديا ” في الأناضول، أول من سك العملة الذهبية، كما ظهر النظام الطبقي، وتقسيم الناس إلى أعيان، والفلاحين وأرباب الحرف، وفي القاع والدرك الأسفل العبيد، وتقلبت الأحوال بين الخير والشر.. الفوضى والشر والقتل ” ست”، والنظام ” حورس”، وبرزت إشكالية السلطة وفساد الحكام، بينما ظلت الحاجة لنظام أكثر إنصافا للفقراء.
   من المهم، ألا نبرح قصة العبيد، حتى نتبين حكايتها، بعد أن كان الأصل هو الناس سواسية أسياد في عصر الصيد، والقنص، وجمع الثمار، ولكن مع الانتقال من حالة الترحال إلى الاستقرار والزراعة، وبسبب عوامل الطقس، والتقلبات المناخية، ضعف المحصول، واستدان الفلاح، وتنازل عن حريته للدائن، وربما وصل هذا إلى رهن أبنه أو زوجته، ومع غارات الجماعات بعضها، ووقوع أسرى، كانوا كالسلع تباع وتشترى، وكانت العبودية .
“الديمقراطية والاستبداد”
   بعيدا عن بعض المفاهيم المغلوطة، يبين لنا المؤلف، بأنه ليست بالضرورة تعني الديمقراطية الحكم الرشيد.. فاليونانيون عرفوا الديمقراطية المباشرة، لكنها كشفت الوجه القبيح لاستبداد الجاهلية، عندما حكموا على الفيلسوف ” سقراط ” بالإعدام، بسبب أن القضاة كانوا من المواطنين العاديين الذين تم اختيارهم بالقرعة، فحاكموه بتهم إفساد الشباب، وتحريضهم على الشك والتفكير، والدعوة إلى آلهة جديدة، هي العقل، وهذا في عرفهم إفسادا.. ومن هنا وضعت  الديمقراطية الحديثة، قيودا على نظام حكم الأغلبية، فلا تكون صاحبة السلطة الوحيدة في المجتمع .
  من وجهة نظر الأديب السفير جمال أبوالحسن، فإن الابتكار عملية إبداعية لكسر الشفرات، باستخدام المعلومات، وأنه مع ظهور الفكر الفلسفي، كان البحث في أصل الوجود، واستعمال العقل، ومواجهة التفسيرات الخرافية، كخطوة لكسر شفرة الواقع المادي، ومنه استلهم رواد النهضة الأوروبية الثورة العلمية، التي يعيشها حتى اليوم، وكانت فلسفة سقراط تنصب على أن نفكر بأنفسنا، وكانت السعادة الحقيقية عنده ليست في المال، بل عن طريق الفضيلة، لأن الروح هي أهم ما لدى الإنسان، فلا قيمة للمال والصحية، عندما تضيع وتفقد روحك .
 يقول المؤلف: إن البشر جبلوا على الاتباع، الانقياد، الامتثال، والتماهي مع المجموع، وهم بحاجة لمن يعطيهم ” كتالوجا” لحياتهم، وشفرة اجتماعية تريحهم من التفكير، وأن الناس تقلقهم الأفكار الجديدة .
“التكنولوجيا الاجتماعية”
 ويدلف بنا المؤلف إلى قضية التكنولوجيا الاجتماعية، كطريقة لحشد وتنظيم الناس، وأن الفرس كانوا أول من أدركوا الحاجة إلى نظام تشغيل مختلف للتحكم في كيان يضم شعوبا متعددة، ومتنوعة، كما عرف عن ” قورش  ” ملك الفرس ” 600 – 530 ” قبل الميلاد، التسامح الديني، وقبول الآخر.. وحتى عندما امتدت أمبراطورية الفرس على 5,5 مليون كلم مربع، من اليونان حتى الهند، بطول 13 ألف كلم طرق، اعتمدوا خلالها تكنولوجيا اجتماعية ذكية، فلم يفرضوا دينا معينا على أرجاء الأمبراطورية، ولم يصنعوا شريعة قانونية واحدة، بل تركوا مساحة واسعة من الحرية للحكام.
     “000, 300 ” عام من الخوف للأديب السفير جمال أبوالحسن، بدأت برحلة البشر، من صيادين، وجامعي ثمار، وشيئا فشيئا أصبحت الحياة مركبة من شفرات، وتكونت المجتمعات، ثم المدن، فالإمبراطوريات.. تلك الرواية التي تحرك بنا فيها الأديب السفير جمال أبوالحسن، من انعدام اليقين شيئا فشيئا، إلى يقين أكبر الأديان التوحيدية.
    وهؤلاء البشر في اعتقاد المؤلف، ظلوا أسرى لانعدام اليقين، بسبب استحالة معرفة المستقبل، وأن الأديان التوحيدية ساعدت في معالجة هذه الحالة، عبر الايمان بأن المستقبل مقرر سلفا، ومعلوم لدى القوة الأعلى في الكون، وهو الإله، بل ومستقبل البشرية كلها، لأن الأديان التوحيدية تفترض نقطة بداية الكون، ونقطة نهاية أيضا، تصل عندها قصة البشرية إلى خاتمتها.
 

زر الذهاب إلى الأعلى