آراء

د. احمد درويش يكتب : أزمة الأوقات الصعبة في أحضان كوفيد 19

تعيش الدول النامية أو كما تسمى فى أدبيات التصنيف السياسى “دول الجنوب” , أوقات صعبة , فهى فى الظروف العادية تفتقر للقدرة على تلبية الإحتياجات الملحة لشعبها , فماذا عن تلبية حالة طوارئ عالمية غير مسبوقة مثل حالة كوفيد 19 أو ما يسمى الفيروس التاجى كورونا ؟!

لا مفر من الاستسلام ليقين العيش عام كامل على الأقل فى أحضان الخطر , فالفيروس التاجى تهديداً للصحة العامة تلك حقيقة أولى , فوباء الفيروس التاجى قد طغى على النظم الصحية فى أوروبا وأمريكا الشمالية , وعانت الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة من نقص فى الأطباء وأجهزة الوقاية الشخصية والقدرة على إختبار وجود الفيروس .

وحين أوصت منظمة الصحة العالمية بالإبتعاد الجسدى للسيطرة على إنتشار الفيروس , كان ذلك يسيراً على تلك الدول الغنية رغم طغيان الوباء عليها .

بينما الوضع فى البلدان الفقيرة حيث تندر الموارد الطبية وتشترك العائلة فى منزل من غرفة واحدة , وتفتقر لمصدر مياه جارية لغسل أيديهم , هو بالطبع وضعاً أسوأ فالشعوب الأكثر فقراً هم الأكثر معاناة وهم الأكثر عرضة للوباء .

أما الحقيقة الثانية للفيروس أنه وبشكل متزايد يعد تهديداً إقتصادياً سيؤدى إلى ركود وتباطؤ فى النمو السنوي العالمي , وفى حين يمكن للدول الغنية إصدار المزيد من الديون بعملاتها الخاصة بها ، إلا أن البلدان النامية تتطلب صرف العملات الأجنبية لدفع ثمن الواردات التى تشتد الحاجة إليها, وخاصة بعدما انسحبت أكبر دولة فى العالم من دورها السنيمائى الذى طالما شاغلتنا به فى إنقاذ البشرية من الكوارث والنهايات الأليمة , وأدارت ظهرها للعالم وانشغلت بحالات الطوارئ الطبية والإقتصادية بها , ويبدوا أن قدرتها على منع تفشى المرض فى المستقبل تتخبط فى جدول أعمالها .

تلك الأوقات الصعبة التى نحتاج فيها إلى التقارب أكثر , تشتد علينا الضرورة بالتباعد أكثر , ونقف سوياً وليس أمامنا سوى أن نتعاون حتى لا نسقط جميعاً , وستتوقف مدة تلك الأوقات الصعبة على أربعة متغيرات هى:
1- مدى انتشار الفيروس وسرعته .
2- مدة ما قبل العثور على اللقاح .
3- مدى فعالية صناع السياسات فى التخفيف من الضرر على صحتنا الجسدية والإقتصادية .
4- مدى شعور الناس بالقلق .

الإستجابة الفعالة للعواقب الإقتصادية لـ كوفيد 19 لا تتطلب فقط تدابير إقتصادية كلية نشطة وموجهة ، ولكن سلسلة من السياسات العلاجية والإصلاحات المؤسسية اللازمة لبناء نمو قوى ومستدام ومنصف ومناسب للمناخ , مسار من شأنه أن يقلل من فرص حدوث إنهيار إقتصادى لاحق .

فمازال الإنتعاش الإقتصادى المتعثر فى دول الشمال والتباطؤ العام فى دول الجنوب , ينذران بالسوء على الإقتصاد العالمى منذ الأزمة المالية (2008-2009)م , وبالإقتران مع تقلبات السوق المتزايدة، ونظام سياسى عالمى متعدد الأطراف مكسور بعجز القوة , وصغر مساحة المناورة السياسية ، إتسم العقد الماضى بإحساس متزايد بالقلق الإقتصادى .

إرتبط النمو البطىء والقلق الإقتصادى المتزايد إرتباطًا وثيقًا بإرتفاع غير مسبوق فى عدم المساواة، فى جميع البلدان تقريبًا ، مما يعكس مزيجاً من قمع الأجور وأرباح الشركات وتركيز الثروة .

وقد أدت دورات الطفرة المالية والكساد الناتجة عن محاولات التغلب على النمو البطىء عن طريق التيسير النقدى وإلغاء القيود المالية , إلى تفاقم العلاقة بين عدم المساواة والركود من خلال خلق الهدر والتشوهات فى جانب العرض وخفض النمو المحتمل , وأدت التفاوتات المتزايدة على مدى عدة عقود إلى تآكل القدرة الشرائية لمعظم الأسر منذ فترة طويلة قبل تفشى فيروس كوفيد 19 ، وهى الآن تشكل رياحًا معاكسة خطيرة أمام التعافى الإقتصادى .

خلال النصف الثانى من عام 2019م ، وقبل إندلاع أزمة كوفيد 19 ، أصبح من الواضح أن الإقتصاد العالمى قد دخل فى مأزق أكثر إضطرابًا مع تباطؤ النمو فى جميع المناطق وعدد من الاقتصادات التى تقلصت فى الربع الأخير , ومع ذلك كان هناك توقع مشترك على نطاق واسع بأن الأمور ستتحسن تدريجيًا فى عام 2020م ، بقيادة الإقتصادات الناشئة الكبيرة ، مع العودة إلى النمو العالمى المحتمل بحلول عام 2021م .

وبالنظر إلى هذا الإقتصادات المالية الهشة والمليئة بالإعتماد المتبادل بشكل كبير أصبحت مصدراً للصدمات لصانعى السياسات ، ولاسيما فى الإقتصادات النامية حيث كان تراكم الإحتياطى هو الإجراء الوقائى المفضل , فى حين أن الاقتصادات الغنية المكلفة بضمان الإستقرار ، كانت بطيئة جدًا فى الرد على تهديد العدوى المالية , رغم أنها شديدة العدوانية فى التعامل مع عواقبها الإقتصادية , بينما الإقتصادات الأكثر ضعفًا نادرًا ما تكون مصدر مسببات للأمراض المالية التى تنشر العدوى .

الفجوة الواضحة بين الواقع على الأرض ، والإيمان بأساسيات الإقتصاد العالمى , تحتاج لتدخلات سياسية أكثر جرأة وإصلاحات هيكلية , إن لم تكن راديكالية , ولاسيما وأن قنوات الخلل الإقتصادى واضحة وتكمن فى العرض والطلب والتمويل .

فعلى جانب الطلب ، من المتوقع أن يؤثر مزيج من إنخفاض الدخل ، وتحول مشاعر الخوف من العدوى وغياب اللقاح سلبًا على الإنفاق الخاص ، خاصة فى قطاع الخدمات ، مع تأثر السياحة والترفيه ، وخاصة فى الأنشطة المرتبطة بالتجمعات العامة الكبيرة وخدمات الكافتيريات والمطاعم, مما يسبب تخفيض ساعات العمل ، وتسريح العمال المحتملين ، وتخفيض حجم المشتريات , وتخفيض الإيجارات , وأشياء أخرى , سيقلل ذلك المزيج من إنفاق الأسرة ويزيد من إنعدام الأمن الإقتصادى لأولئك الذين لا يستطيعون الوصول إلى شبكة الأمان الإجتماعى .

وعلى جانب العرض ، فإن التوقف المفاجئ لنشاط التصنيع فى المناطق الأكثر تضرراً سيؤدى إلى إختناقات فى سلاسل القيمة العالمية , ويمكن أن يتم دعم العرض بالمخزون لفترة من الوقت ، ولكن مع هياكل الإنتاج المعولمة فى الوقت الحاضر ، يبدو من المعقول إفتراض أن مدة وحجم تفشى فيروس كوفيد 19 قد استنفدت بالفعل المخزون .

وسيؤدى هذا الإضطراب بدوره إلى إغلاق المصانع على نطاق واسع بسبب نقص المدخلات الوسيطة ، حتى فى المناطق التى لا تزال محصنة ضد الفيروس , وإذا إستمرت الأزمة ، فسوف ينخفض التوظيف والأجور أيضًا , وبالتالى فإن عواقب الإضطرابات على جانب العرض يمكن أن تلوث الطلب الكلى على المعروض , مما يشكل دائرة تغذية ذاتية تهدد الإستقرار المالى .

إذا تسبب تفشى فيروس فى سوق للأغذية فى جنوب الصين ، فى إحداث مثل هذا الإضطراب الإقتصادى العالمى ، فكيف يمكن تجاهل أكثر العيوب الأساسية فى النظام الإقتصادى الحالى ؟.

يمكن تحديد إستجابات السياسة بشكل مفيد من قنوات الخلل المذكورة (الطلب والعرض والتمويل) ، ومع ذلك لا ينبغى صياغة التحدى على أنه مجرد التغلب على الصدمة التخريبية والعودة إلى مسار النمو المرغوب فيه قبل الأزمة , بدلاً من ذلك من الضرورى مواءمة الإستجابات لصدمة كوفيد 19 بطريقة تعيد توجيه الإقتصاد العالمى فى إتجاه أكثر رعاية وشمولًا وإستقرارًا ماليًا .

إن تعزيز الإنفاق الصحى الطارئ مؤقتًا – مع الرعاية المجانية للمتضررين من الفيروس التاجى – هو إستجابة واضحة ، وينطبق الشىء نفسه على التحويلات النقدية الطارئة لأولئك الذين يعانون من فقدان مفاجئ للدخل ، خاصة فى الإقتصاد غير الرسمى ,

كما يمكن للحكومات أن تتجنب الركودعن طريق زيادة طلبها الخاص ، خاصة بالنسبة للسلع والخدمات التى لا يتوفر بها نقص ، مثل البناء والخدمات الإجتماعية .

تثير الدعوات لزيادة الإنفاق العام دائما المخاوف من التبذير والمشاكل المالية فى المستقبل , بينما هذه الأمور تعد بسيطة فى مقابل الهدر الهائل لسوء الإدارة الإقتصادية الكلية ، وجرائم الفساد المالى وسرقة المال العام , وعمليات إنقاذ البنوك المركزية للبنوك الخاصة ، ودعم الوقود والسلع ، وحجم التهرب من الضرائب وتجنبها .

كما نوقش فى تقرير التجارة والتنمية لعام 2019م ، سيكون تقليل بعض هذه المساوئ كافيًا لإطلاق صفقة عالمية خضراء جديدة تتضمن تحسينات على أنظمة الصحة العامة .

يتعين على الحكومات الراغبة فى القيام بكل ما يلزم لتحقيق الإستقرار فى الإقتصاد أن تزيد من إنفاقها حتى يعود القطاع العام والخاص والعمالة إلى معدلات نمو صحية , وعلى الحكومات أن تعلم أن مخاوف الدين العام ثانوية بالنسبة إلى مخاوف الصحة العامة والإنهيار الإقتصادى .

تنظيم سوق العمل , ودعم نمو العمالة مع نمو الأجور , وتأمين الدخل وقدرات الكسب مع مراقبة الحد الأدنى للإجور , والتأمين ضد البطالة وإستحقاقات أجر المرضى وتوفير الرعاية الصحية والتعليم, يجب أن يتضمن ما سبق إهتمامًا خاصًا , لأن المجتمعات التى تتمتع بتغطية تأمين صحى شاملة هى فى وضع أفضل لحماية نفسها من عواقب الوباء حيث لا يتحمل الناس أى تكلفة لفحص الفيروس .

ويمكن علاج المصابين من قبل النظام العام مع فقدان القليل من الدخل , ويجب أن تخضع الممارسات التجارية التقييدية لشركات الأدوية العالمية الكبيرة لفحص ورقابة مستقلة لتقييم أى عقبات محتملة قد تطرحها لمعالجة حالة الطوارئ الصحية .

يجب على البنوك المركزية أن توجيه الإئتمان للإنتاج وخلق فرص العمل , وتعزيز البنية التحتية العامة ومصارف التنمية ، وتوفير خطوط ائتمان مصممة خصيصًا للشركات الصغيرة والمتوسطة المتعثرة مالياً .

وعلى الصعيد الدولى ينبغى للمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولى أن تقدم آليات تحوط ملموسة منخفضة التكلفة لحكومات البلدان النامية لإدارة مخاطر أسعار الصرف الناتجة عن الصدمات الدولية ، وتجنب الدورات المالية لإنتعاش الطفرة فى العقود الأخيرة ووضع الإقتصاد العالمى على مسار مستدام , إن الإعلان الترحيبى من صندوق النقد الدولى لتقديم 50 مليار دولار للتخفيف من آثار الأزمة يجب أن يتخذ شكل منح للدول الأكثر ضعفًاً، وقروض بفائدة صفرية للآخرين.

أصبحت الحاجة إلى تنفيذ توصيات الهيئات المستقلة مثل لجنة خبراء الأمم المتحدة المعنية بالمسائل الضريبية الدولية ولجنة إصلاح الضرائب الدولية على الشركات أمراً ملحاً , فإن العودة إلى الضرائب التصاعدية أمر قابل للإستمرار مالياً وإقتصادياً وعادل إجتماعياً .

زر الذهاب إلى الأعلى