آراء

الدكتور حسنى ابوحبيب يكتب :الوهم نصف الداء والصبر أول خطوات الشفاء

لا شك أن المراقب لحال كثير من الناس في الآونة الأخيرة لا سيما في ظل تفشّي وباء كورونا (كوفيد 19)ً ، يلحظ انتشار مظاهر الخوف والتوتر الشديدين بين فئة كبيرة منهم.

يأتي هذا متزامناً مع تركيز وسائل الإعلام بشكل كبير على هذا الوباء ، مما أدى إلى انعكاسات جليّة على الجانب النفسي لكثير من البشر.

والأخطر من هذا أننا نجد ثلة من الناس يستسلمون للتوتر والخوف دون أن يُدركوا أنّهم بهذا يُعرّضون أنفسهم لخطر مضاعف للإصابة بذلك الفيروس أو الإصابة بأمراض أخرى أشد ضراوةً منه وأكثر فتكاً ، وما ذلك إلا لأن التوتر والخوف يدمران جهاز المناعة لدى الإنسان ويقتلانه قتلاً وإن كان صحيحاً معافى.

يصور لنا ابن سينا في كتابه الشفاء خطورة التوتر والخوف على حياة الإنسان تصويراً رمزياً بليغاً ، فيقول: إن وباءً ما كان ذاهباً إلى إحدى المدن ، فشاهده رجل وسأله: إلى أين أنت ذاهب أيها الوباء ؟.

فردّ الوباء قائلاً: أُمرتُ أن أذهب إلى هذه المدينة لأقتل ألفاً من أهلها.

وعندما خرج الوباء من المدينة ، شاهده الرجل ، فقال له: ما أقساك !! لقد قتلتَ عشرين ألفاً من أهل المدينة.

فردّ الوباء بقوله: أنا قتلتُ ألفاً فقط ، أمّا الباقي فقد قتلهم الوهم والخوف.

نعم إن الوهم نصف الداء ، والاطمئنان نصف الدواء ، والصبر أول خطوات الشفاء.

ولأهمية الجانب النفسي لدى الإنسان ، ومدى توقف صحته عليه أو مرضه ، وكذا ارتباط سعادته به أو شقائه ، اهتم إسلامنا الحنيف بذلك أيما اهتمام.

فبين لنا ربنا سبحانه في قرآنه أنه لا يُذهب شيء الخوف عن الإنسان ويأتيه بالأمن الذي يضمن سلامته في الدنيا وسعادته في الآخرة كما الإيمان بالله والعمل الصالح والإصلاح في الأرض والالتزام بمنهج الله وشرعه ، فقال سبحانه: “ﻣﻦ ﺁﻣﻦ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻭاﻟﻴﻮﻡ اﻵﺧﺮ ﻭﻋﻤﻞ ﺻﺎﻟﺤﺎ ﻓﻠﻬﻢ ﺃﺟﺮﻫﻢ ﻋﻨﺪ ﺭﺑﻬﻢ ﻭﻻ خوف عليهم ﻭﻻ ﻫﻢ ﻳﺤﺰﻧﻮﻥ” (البقرة: 62) ، وقال جل شأنه: “ﻓﻤﻦ ﺁﻣﻦ ﻭﺃﺻﻠﺢ ﻓﻼ خوف عليهم ﻭﻻ ﻫﻢ ﻳﺤﺰﻧﻮﻥ” (الأنعام: 48) ، وقال تعالى: “فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (البقرة: 38) إلى غير تلك الآيات التي تدل بني آدم على أسباب الأمن وسبله ، وعلى الفرح وطرقه.

أما السنة النبوية ففيها الكثير والكثير من الأحاديث التي تبث الأمن في زمن الخوف وتنشر الطمأنينة في أيام الرعب ، من هذا عندما رأى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم خوف الناس الشديد من العدوى والأوبئة ، ووجد بعضهم ربما نسب إلى الوباء التأثير بذاته دون إرادة من الله ، قال حديثه الشريف: “لا عدوى ولا طيرة ﻭﻻ ﻫﺎﻣﺔ ﻭﻻ ﺻﻔﺮ ﻭﻓﺮ ﻣﻦ اﻟﻤﺠﺬﻭﻡ ﻛﻤﺎ ﺗﻔﺮ ﻣﻦ اﻷﺳﺪ” (متفق عليه).

وهذا النفي لا ريب أنه ليس نفيا لوجود العدوى ؛ لأنها موجودة ، ولكنه نفي لتأثيرها بذاتها ؛ فالمؤثر على الحقيقة هو الله ، وإذًا فليس المراد بالنفي نفي ذات العدوى ؛ فإنها ثابتة ، وإنما المراد نفي صفتها المزعومة في الجاهلية، وهي أنها مؤثِّرة بطبعها وذاتها.

كما أنه لا يمكن أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينكر تأثير العدوى ؛ لأن هذا أمر يبطله الواقع والأحاديث الأخرى ، وعلى هذا فالمعنى يكون: أن المرض لا ينتقل من المريض إلى الصحيح بنفسه ، وإنما ينتقل بتقدير الله تعالى ، فمخالطة المريض للصحيح سبب من أسباب انتقال المرض ، ولكن ليس معنى ذلك أنه واقع لا محالة ، بل لا يقع إلا إذا شاء الله ، ولهذا نجد في بعض الأحيان يخالط المرضى الأصحاء ولا ينتقل إلى الأصحاء منهم شيء.

لذا أمر النبي ﷺ بأسباب الوقاية من الوباء ، فقال: “فر من المجذوم فرارك من الأسد” ، وقال: “لا يورد ممرض على مصح”.

وما ذاك إلا لإن تعطيل الأسباب وإخراجها عن أن تكون أسبابا ، تعطيل للشرع ومصالح الدنيا ، كما أن الاعتماد عليها والركون إليها ، واعتقاد أن المسببات بها وحدها ، طعن في التوحيد وجهل بالدين.

وهناك من ذهب في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: “لا عدوى” أن لا ناهية وليست نافية ، أي لا يعدي الممرض المصح بحلوله عليه ، يدل على ذلك قوله: “لا طيرة ولا هامة، ولا يعدي سقم صحيحا ، وليحل المصح حيث شاء” ففي هذا النهي كالإثبات للعدوى والنهي عن أسبابها ، أي إن الرسول ينهى المريض عن الاقتراب من الصحيح حتى لا يعرضه للوباء كما أنه ينهى الصحيح من التواجد بأماكن الوباء محافظة على نفسه ، وهذا التفسير هو ما أراه الأصوب والأدق.

ما أريد قوله: إن أعداءنا يهولون من ذلك الفيروس الذي هو أضعف من فيروس الإنفلونزا العادية بلؤم وخبث يريدون قتلنا قتلاً بارداً بالخوف والهلع والذعر الذي يحاولون بثه فينا ليل نهار من خلال آلتهم الإعلامية التي لا تهدأ لتمهد لهم الحصول على ثرواتنا واحتلال أرضنا بتعطيل اقتصادنا وإيقاف عجلة إنتاجنا ، وبعضنا يساعدهم على ذلك بحماقة فنراه يهول ويهول من ذلك الفيروس ، ولا حديث له إلا على عدد الموتى يومياً في حين أننا في الأيام العادية كنا نصلي على أكثر من ذلك العدد في وقت واحد بمسجد واحد من آلاف المساجد ، ومن له أدنى صلة بمساجد مصر الكبرى يشهد على صحة ذلك ، في حين أنه لا يذكر الأعداد الغفيرة التي تعافت منه.

علينا جميعاً في هذه الأيام أن نحسن الظن بالله والتوكل عليه ، ونُقوي ثقتنا فيه وأن نجدد إيماننا به ، ولنكن على يقين أن ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن ، وهذا بالطبع بعد الأخذ بجميع الإجراءات الاحترازية التي أعلنتها الدولة ، وألا نستسلم للخوف والوهم “فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين”.

وفي نهاية مقالي أحب أن أذكر قصة سقراط مع جاره الطبيب ، مدللاً بها على صحة ما ذهبت إليه من خطورة الخوف والوهم علينا.

يرزى أنه كان لسقراط جارٌ طبيب ، استنكر عند الملك إطلاقَ لقب الطبيب الأول على سقراط ، فسأله الملك عن طریقةٍ یُثبِتُ فیھا أنه الأفضل لنقل اللقب إليه ، فقال الطبیب: سأسقیه السمّ ! ویسقیني ، ومن یعالج نفسه فهو الأصلح !.

حُدِّدَ الموعدُ بعد أربعین یوماً ، انهمك الطبيب خلالها في تحضير الوصفة ، فيما استدعى سقراط ثلاثة رجالٍ أشداء ، وأمرهم بسكب الماء ودقّه كل يومٍ على مسمعِ جاره الطبيب…

وفي يوم الامتحان ، أعطى الطبيبُ بحضرة الملك السمَّ لسقراط ، فلما شربه اصفرَّ لونُه ، وأصابته الحمى ، لكنه عالج نفسَه بعد ساعة ، ثم أمرَ الملكُ الطبيبَ أن يَشرَبَ سمَّ سقراط ، وما هي إلا لحظات حتى وقع الطبيب صريعاً على الأرض…

هنا قال سقراط للملك: لم أعطِه سمّاً ، بل ماءً عذباً ، وسأشرب منه أمامك ، وفَعَلَ سقراطُ بكل ثقة وسلامة…

لقد قَتَلَ سقراطُ منافسَه بقوة الإيحاء وبالوهم والخوف ، فأَسْمَعَه دقات الموت على مدار أربعين يوماً ، وما كان يدقُّ إلا الماء ، لكن الوهمَ والخوف قتلا صاحبَه…

لذا فمن ينهزم بداخله فلن ينصره أحد ، ومن ينتصر من داخله فلن يهزمه أحد !.

وكل ما أخشاه أن يقتلنا أعداؤنا بالماء الذلال الذي دقوه لنا منذ قرون ، حتى سيطر علينا الخوف والهلع وكان نصرهم علينا بالرعب.

أحبتي الكرام أفيقوا فالأمر بسيط ومع ذلك لا نهون منه كما أننا لا نهول من أمره ، المهم أن نثق بالله وبأنفسنا وبدولتنا وقادتنا وعلمائنا.

اللهم إنا نسألك حسن التوكل عليك ، وتمام الثقة فيك ، والأمن في الدنيا والآخرة ، وأمنا إذا فزع الناس واجعلنا مصدر أمنهم وطمأنتهم بفضلك يا نعم المولى ويا نعم النصير.

الدكتور حسنى ابوحبيب وكيل وزارة الأوقاف بالفيوم

زر الذهاب إلى الأعلى