أهم الأخباردين و دنيا

صدقة الفطر وحكم اخراجها نقودا يكتب عنها : د. حسنى ابوحبيب

“قد أفلح من تزكى” (الأعلى: 14).هذا وعد من إله لا يخلف وعده ، وعد بالفلاح لكل من عمل جاهداً على تزكية نفسه وتطهيرها.

وذهب بعض المفسرين إلى أنها نزلت في صدقة الفطر ، ولكثرة اللغط الذي يدور حول صدقة الفطر وجواز إخراجها نقوداً أم لا كلما أهل علينا شهر رمضان المبارك ، وكلما أوشكت أيامه الطيبة على الانصرام.

فقد آثرت أن أتكلم عن هذا الموضوع ، وأبين اختلاف الفقهاء فيه.

في الحقيقة الأمر في هذا المسألة واسع إلا أن هناك فريقاً من الأناسي يصرون على تضييقه ، لا لشيء إلا لإصراهم غير المبرر على الأخذ بالمذهب الواحد وتنزيل المختلف فيه منزلة المتفق عليه ، وهذا مما يجلب العنت والمشقة على آخذ الصدقة قبل معطيها.

وقد رأينا من يتمسك بهذا فيخرجها حبوباً في مجتمعات لا سبيل للأفراد فيها إلى استخدامها ولا أماكن لديهم لتخزينها ، مما يضطرهم إلى بيعها بأثمان مبخوسة من تجار لا خلق لهم ولا خلاق ، فيتعرض مستحق الصدقة للحرج مرة وللغبن مرة أخرى.

فهل هذا مقصود الدين ومراده ؟! ، أم هل هذا هو الإنصاف ؟!!.

وإذا طالعنا أقوال فقهائنا القدامى منهم والمحدثين رأينا أنهم اختلفوا في ذلك الأمر ، ومع ذلك ما أنكر أحد منهم على الآخر ، وهذا شأن الكبار ، فمن اتسعت أفكاره قلٌ إنكاره. وكلهم من رسول الله ملتمس.

وسأعرض أقوالهم قبل أن نرجح ما نراه راجحاً واضعين نصب أعيننا تغير الزمان والمكان والأحوال ، وقبل هذا كله نبين صدقة الفطر وحكمها.

صدقة الفطر هي تلك الزكاة التي أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل مسلم طهرة لصيامه ، وطعمة للمساكين في شهر رمضان.

ﻋﻦ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ، ﻗﺎﻝ: ” ﻓﺮﺽ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺯﻛﺎﺓ اﻟﻔﻄﺮ ﻃﻬﺮﺓ ﻟﻠﺼﺎﺋﻢ، ﻣﻦ اﻟﻠﻐﻮ ﻭاﻟﺮﻓﺚ ﻭﻃﻌﻤﺔ ﻟﻠﻤﺴﺎﻛﻴﻦ، ﻣﻦ ﺃﺩاﻫﺎ ﻗﺒﻞ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﻬﻲ ﺯﻛﺎﺓ ﻣﻘﺒﻮﻟﺔ، ﻭﻣﻦ ﺃﺩاﻫﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﻬﻲ ﺻﺪﻗﺔ ﻣﻦ اﻟﺼﺪﻗﺎﺕ “.

وهي واجبة على كل مسلم صغير أو كبير ، غني أو فقير.

ﻋﻦ اﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﻗﺎﻝ: ﻓﺮﺽ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺯﻛﺎﺓ اﻟﻔﻄﺮ ﻣﻦ ﺭﻣﻀﺎﻥ ﺻﺎﻋﺎً ﻣﻦ ﺗﻤﺮ ، ﺃﻭ ﺻﺎﻋﺎً ﻣﻦ ﺷﻌﻴﺮ ، ﻋﻠﻰ اﻟﻌﺒﺪ ﻭاﻟﺤﺮ، ﻭاﻟﺬﻛﺮ، ﻭالأﻧﺜﻰ، ﻭاﻟﺼﻐﻴﺮ، ﻭاﻟﻜﺒﻴﺮ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ.

ويجوز أداؤها من أول يوم من أيام شهر رمضان إلى قبيل صلاة العيد ، ومصارفها مصارف الزكاة.

أما أقوال الفقهاء في جواز أدائها نقداً (أي دفع القيمة) فهي كالتالي:

• الرأي الأول:

ﺫﻫﺐ اﻟﻤﺎﻟﻜﻴﺔ ﻭاﻟﺸﺎﻓﻌﻴﺔ ﻭاﻟﺤﻨﺎﺑﻠﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﺠﻮﺯ ﺩﻓﻊ اﻟﻘﻴﻤﺔ، ﻷﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺮﺩ ﻧﺺ ﺑﺬﻟﻚ ، واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين: “فرض رسول الله زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من بر، أو صاعا من شعير على الصغير والكبير من المسلمين” وفي رواية: “أو صاعا من أقط” وهو اللبن المجفف.

ومع ذلك لم يلتزموا بالنص فأجازوا إخراجها أيضا من الأرز أو العدس أو الفول أو غالب طعام البلد ، مع أن ذلك لم تنص عليه الأحاديث الواردة في هذا الباب.

• الرأي الثاني: وهو ما أراه راجحاً.

ﺫﻫﺐ اﻟﺤﻨﻔﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﻧﻪ ﻳﺠﻮﺯ ﺩﻓﻊ اﻟﻘﻴﻤﺔ ﻓﻲ ﺻﺪﻗﺔ اﻟﻔﻄﺮ ، ﺑﻞ رأوا أنه ﺃﻭﻟﻰ ﻟﻴﺘﻴﺴﺮ ﻟﻠﻔﻘﻴﺮ ﺃﻥ ﻳﺸﺘﺮﻱ ﺃﻱ ﺷﻲء ﻳﺮﻳﺪﻩ ﻓﻲ ﻳﻮﻡ اﻟﻌﻴﺪ ؛ ﻷﻧﻪ ﻗﺪ ﻳﻜﻮﻥ أحوج ﺇﻟﻰ غير اﻟﺤﺒﻮﺏ منها ، ﻓﺈﻋﻄﺎﺅﻩ اﻟﺤﺒﻮﺏ، ﻳﻀﻄﺮﻩ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﻳﻄﻮﻑ ﺑﺎﻟﺸﻮاﺭﻉ ﻟﻴﺠﺪ ﻣﻦ ﻳﺸﺘﺮﻱ ﻣﻨﻪ اﻟﺤﺒﻮﺏ، ﻭﻗﺪ ﻳﺒﻴﻌﻬﺎ ﺑﺜﻤﻦ ﺑﺨﺲ ﺃﻗﻞ ﻣﻦ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ. (الموسوعة الفقهية الكويتية).

كما ﻳﺠﻮﺯ عندهم ﺃﻥ ﻳﻌﻄﻲ ﻋﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﺫﻟﻚ اﻟﻘﻴﻤﺔ ﺩﺭاﻫﻢ ﺃﻭ ﺩﻧﺎﻧﻴﺮ ﺃﻭ ﻓﻠﻮﺳﺎ ﺃﻭ ﻋﺮﻭﺿﺎ ﺃﻭ ﻣﺎ ﺷﺎء؛ ﻷﻥ اﻟﻮاﺟﺐ ﻓﻲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺇﻏﻨﺎء اﻟﻔﻘﻴﺮ.

واستدلوا بقوله ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: “ﺃﻏﻨﻮﻫﻢ ﻋﻦ اﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﻓﻲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻴﻮﻡ” ، ﻭاﻹﻏﻨﺎء ﻳﺤﺼﻞ ﺑﺎﻟﻘﻴﻤﺔ، ﺑﻞ هو ﺃﺗﻢ ﻭﺃﻭﻓﺮ ﻭﺃﻳﺴﺮ ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺃﻗﺮﺏ ﺇﻟﻰ ﺩﻓﻊ اﻟﺤﺎﺟﺔ، ﻓﻴﺘﺒﻴﻦ ﺃﻥ اﻟﻨﺺ ﻣﻌﻠﻞ ﺑﺎﻹﻏﻨﺎء. (الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي).

كما استدلوا بما ﺭﻭﻯ اﻟﺒﺨﺎﺭﻱ: أن ﻣﻌﺎﺫاً ﻗﺎﻝ لأﻫﻞ اﻟﻴﻤﻦ: اﻳﺘﻮﻧﻲ ﺑﻌﺮﺽ ﺛﻴﺎﺏ ﺧﻤﻴﺺ (اﻟﺜﻮﺏ ﻣﻦ اﻟﺨﺰ ﻟﻪ ﻋﻠﻤﺎﻥ) . ﺃﻭ ﻟﺒﻴﺲ ﻓﻲ اﻟﺼﺪﻗﺔ ﻣﻜﺎﻥ اﻟﺸﻌﻴﺮ ﻭاﻟﺬﺭﺓ، ﺃﻫﻮﻥ ﻋﻠﻴﻜﻢ. ﻭﺧﻴﺮ لأﺻﺤﺎﺏ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺑﺎﻟﻤﺪﻳﻨﺔ.

وقد جاء في الفتاوى الكبرى لابن تيمية ج 1 ص 33: أن أمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بصدقة اﻟﻔﻄﺮ ﺑﺼﺎﻉ ﻣﻦ ﺗﻤﺮ ﺃﻭ ﺷﻌﻴﺮ ، ﻫﻮ ﻋﻨﺪ ﺃﻛﺜﺮ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻟﻜﻮﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻗﻮﺗﺎً ﻟﻠﻨﺎﺱ ، ﻓﺄﻫﻞ ﻛﻞ ﺑﻠﺪ ﻳﺨﺮﺟﻮﻥ ﻣﻦ ﻗﻮﺗﻬﻢ ، ﻭﺇﻥ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ اﻷﺻﻨﺎﻑ الواردة في أحاديث الباب ﻛﺎﻟﺬﻳﻦ ﻳﻘﺘﺎﺗﻮﻥ الأﺮﺯ، ﺃﻭ اﻟﺬﺭﺓ ﻳﺨﺮﺟﻮﻥ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﻋﻨﺪ ﺃﻛﺜﺮ اﻟﻌﻠﻤﺎء.

وجاء في فتاويه أيضاً معلقاً على اختلاف الفقهاء حول تلك المسألة: ﻭاﻟﻤﺨﺘﺎﺭ ﺃﻥ ﻳﺮﺟﻊ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺇﻟﻰ ﻋﺮﻑ اﻟﻨﺎﺱ ﻭﻋﺎﺩﺗﻬﻢ ﻓﻘﺪ ﻳﺠﺰﺉ ﻓﻲ ﺑﻠﺪ ﻣﺎ ﺃﻭﺟﺒﻪ ﺃﺑﻮ ﺣﻨﻴﻔﺔ، ﻭﻓﻲ ﺑﻠﺪ ﻣﺎ ﺃﻭﺟﺒﻪ ﺃﺣﻤﺪ ، ﻭﻓﻲ ﺑﻠﺪ ﺁﺧﺮ ﻣﺎ ﺑﻴﻦ ﻫﺬا ﻭﻫﺬا ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺐ ﻋﺎﺩﺗﻪ ﻋﻤﻼ ﺑﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: (ﻣﻦ ﺃﻭﺳﻂ ﻣﺎ ﺗﻄﻌﻤﻮﻥ ﺃﻫﻠﻴﻜﻢ).

ﻭما أريد قوله أن كثيراً من أوامره صلى الله عليه وسلم ليست ﻣﺨﺼﻮصة ﺑﻔﻌﻠﻪ أﻭﻓﻌﻞ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ، ومنها بالطبع ذلك الأمر بحصر صدقة الفطر في الأصناف المذكورة ، ﻭﻫﺬا ما تطلق عليه ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ أهل العلم: (ﺗﻨﻘﻴﺢ اﻟﻤﻨﺎﻁ) ﻭﻫﻮ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ اﻟﺤﻜﻢ ﻗﺪ ﺛﺒﺖ ﻓﻲ ﻋﻴﻦ ﻣﻌﻴﻨﺔ ، ﻭﻟﻴﺲ ﻣﺨﺼﻮﺻًﺎ ﺑﻬﺎ، ﺑﻞ اﻟﺤﻜﻢ ﺛﺎﺑﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﻭﻓﻲ ﻏﻴﺮﻫﺎ ، ﻓﻴﺤﺘﺎﺝ ﺃﻥ ﻳﻌﺮﻑ “ﻣﻨﺎﻁ اﻟﺤﻜﻢ “.

وخلاصة القول فإن المسألة من المسائل المختلف فيها قديماً وحديثاً ، وأن الأمر فيها واسع لا يستدعي إنكار فريق على آخر ، أو تعصب لرأي دون غيره ، والقاعدة الأصولية تقول: “لا إنكار في المختلف فيه وإنما ينكر المتفق عليه” ، ولا بد وأن يوضع في الحسبان اختلاف الزمان والمكان والأحوال والأشخاص ، فما يصلح للفقير في زمن ربما لا يصلح له في آخر ، وما يحتاجه الفقير في مكان ربما لا يحتاجه في غيره ، وما يغني الفقير في بيئة ربما بسبب له الحرج في غيرها.

فكفانا تعصباً فقد تعبنا منه ، وبه شتت شمل الأمة ، وتقطعت الأواصر بينها ، ولنفتح عقولنا ولنعيش واقعنا وزماننا ، ولا نحاول أن نسجن الأمة في عصور ولت ، وأيام مضت ، فلو كان سلفنا بيننا لتغيرت فتاواهم بما يتناسب مع زمانهم ، شريطة أن تكون المرجعية للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من خلال رؤى علماء متخصصين وفهم عميق لدلالات النصوص ومراميها ، ومراد الشرع الحنيف ، مع الالتزام بالتيسير ورفع المشقة ودفع العنت ، والحرص على تحقيق مصلحة الخلق ، فحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله.
نسأل الله الهداية لنا ولجميع المسلمين والقبول منا أجمعين.
Yoast

زر الذهاب إلى الأعلى