محمد حربي يكتب: المنسيون في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
بمناسبة اليوبيل الماسي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر في العاشر من ديسمبر عام 1948م، باعتباره الميثاق الأعظم، الذي جاء بعد أحداث كارثية للحرب العالمية الثانية، وما لحق بالبشرية من دمار هائل، كاد يقضي على الأخضر واليابس، حتى أدرك المجتمع الدولي حاجته لمنظمة أممية تخلف ” عصبة الأمم”، ولمسار جديد يعلي من القيم الحقوقية الإنسانية في العالم، وهكذا كان سقف الآمال والطموحات، قبل أن يصبح مستقبله غامضا، نتيجة للتراجع الشديد في اعتقاد وإيمان عدد كبير من الدول، بما فيها الآباء المؤسسين لفكرة الإعلان الحقوقي الإنساني قبل خمسة وسبعين عاما، والتنكر للمبادئ، وازدواجية المعايير، والكيل بمكيالين، والعجز عن حل مشاكل المنسيين، ضحايا الحقبة الإستعمارية، والبؤر التي تركتها المملكة المتحدة ملتهبة بالمشاكل، لتظل مشتعلة بالاضطرابات، وعدم الإستقرار، من جوايانا إيسيكيبا الفنزويلية، حتى فلسطين العربية، والحرب الصهيونية الإسرائيلية ضد غزة منذ 7 أكتوبر الماضي.
عاشت البشرية تجربة قاسية خلال الحرب العالمية الثانية – 1سبتمبر 1939 – 2 سبتمبر 1945 -، وكانت أشدها فتكا وتدميرا في التاريخ، راح ضحيتها ما يقرب من 70 مليون شخص، منهم نحو 50 مليون مدني، ونشأت منظمة الأمم المتحدة على أنقاض “عصبة الأمم “، بعد فشلها في حماية حقوق الإنسان، واتفقت الدول الأعضاء على حظر حروب العدوان في محاولة لتجنب حرب عالمية ثالثة، كما كانت البداية لنهاية لحقبة استعمارية مظلمة، أشرقت بعدها شمس الحرية والاستقلال على دول كثيرة حول العالم، فيما بقيت القضية الفلسطينية في الظل منسية، تكتوي بلهيب انتهاكات الكيان الصهيوني الإسرائيلي، أخر استعمار مازال مستمرا.
وقد كابد قادة العالم عقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية، في محاولة للخروج من الوحشية اللإنسانية، واللاحقوقية، واتفقوا خلال الدورة الأولى للجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1946م، على فكرة “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان “، وتكليف لجنة من ١٨ عضواً من جنسيات مختلفة، منهم شارل مالك العربي اللبناني لصياغة إعلان أهم وثيقة حقوقية في العالم، برئاسة آنا إليانور روزفلت – أرملة الرئيس الأمريكي فرانكلين رزوفلت-، باعتبارها كانت من أبرز الناشطين في المجتمع المدني، والحريات، وكان أول إجتماع للجنة بمدينة نيويورك الأميركية في يناير عام 1947م، ثم اعتمدته الجمعية العامة الأممية، في قصر شايو بباريس يوم 10ديسمبر عام 1948م، بأغلبية 48 دولة، وامتناع 8 دول عن التصويت ( الكتلة السوفيتية وجنوب أفريقيا والسعودية ).
كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بمقدمته والثلاثين مادة، هو خارطة طريق، ومنارة عالمية ساطعة، والملهم لدساتير كثير من الدول التي تحررت، وحصلت على استقلالها، والعديد من الديمقراطيات الجديدة، حيث يحدد الحريات الأساسية التي يجب أن يتمتع بها جميع الرجال والنساء، وضمان كرامة الفرد في كل مكان من العالم، دون أي تمييز في المساواة ، قبل أن تنحرف به القوى العظمى عن مساره الحقيقي، وتتعامل معه كشعارات تتاجر بها من غير أن تتعاطاها، وتستخدمه بشكل سافر في الانتقائية، وتطبقه وفقا لمعايير الديانة و الجنسية، لا العدالة الإنسانية، حتى بات، وكما قال الأمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه (كلمة حق يراد بها باطل )، ولعل ما يقوم به الإحتلال الإسرائيلي في فلسطين منذ نكبة عام 1948م، وعمليات القتل والتدمير، ومخطط الإبادة الصهيوني الممنهج ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، شهادة وفاة للضمير الأممي، لصمته على ظلم المنسيين في الأرض المحتلة .
يبدو أن خطوات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بدأ تتعثر في طريق المستقبل، وشيئا فشيئا تتآكل مصداقيته، مع سقوط ورقة التوت عنه، وعجزه عن حماية المنسيين من الشعوب المقهورة، والتي تستقوي عليها القوى العظمى بعضلات الظلم وسيف القهر، كما يحدث مع الشعب الفلسطيني الأعزل، الذي يعاني منذ 75 عاما من قهر الاحتلال الإسرائيلي، الذي يحظى بحماية أمريكية، ودعم غربي بشكل علني، لدرجة أن أنتوني بلينكن ” وزير خارجية إسرائيل”، نعم أقصدها، فهو على الدرجة المالية للخارجية الأميركية، ولكنه فعليا هو ملكي أكثر من الملك نفسه، لأنه يطلق تصريحات نارية مؤيدة ومساندة للعنف الذي تستخدمه قوات الإحتلال الإسرائيلي في غزة منذ 7 أكتوبر الماضي، ويعتبره دفاعا عن النفس، وكذلك يتناسب مع القانون الدولي، على الرغم من إستخدامها لأسلحة محرمة دوليا.
وعلى الرغم من أن القرار رقم (3034) الصادر عن الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، في 18 ديسمبر عام 1972م، تم التأكيد فيه على الحق الثابت في تقرير المصير والاستقلال لجميع الشعوب الواقعة تحت الاحتلال أو الاستعمار، وتدعم شرعية نضال الحركات التحررية، إلا أن حقوق الشعب الفلسطيني المنسي، سقطت من حسابات العالم، وباتت مؤشرات الصراع العربي – الإسرائيلي في المنطقة تؤكد الأطماع الصهيونية، ونواياها الخبيثة، المدعومة من القوى الامبريالية العالمية، وفي مقدمتها أميركا، مما يجعل المهادنات ومعاهدات السلام التي توقعها إسرائيل، والتطبيع المجاني، الذي يهرول إليه المهرولين، جميعها في مهب الريح، أمام الحلم الأكبر، الذي رسمته برتوكولات صهيون، في دولة يهودية من النيل إلى الفرات .
لسنا من أنصار معاول هدم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لإعادة بناء آلية جديدة على أنقاضه، لأن عمليات الترميم قد تكون أقل تكلفة، من مقاولات الهدم والبناء.. فقط نحتاج تفعيل منظومة الحريات، وإنهاء هيمنة الولايات المتحدة الأميركية، ووضع حد لسياسة الكيل بمكيالين، وازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الإنسانية، وضرورة منح الشعوب المنسية، كالفلسطينيين حقهم المشروع في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس، مع الوقف الفوري للجرائم التي يقوم بها الإحتلال الإسرائيلي مستخدما الأسلحة المحرمة دوليا ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، على مرأى ومسمع وصمت مخزي للضمير الإنساني.
إن العالم الذي انتفض كله، وسارع قادة نحو خمسين بلدا أمميا ليكونوا من حول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في المسيرة التاريخية التي تم تنظيمها في باريس يوم 11 يناير عام 2015م، تضامنا مع مقتل صحفي و17 آخرين، في هجوم على صحيفة شارلي إبدو الساخرة، التي وقعت يوم 7 من نفس الشهر، أي تجمع قادة العالم جاء سريعا، وبعد أربعة أيام فقط من وقوع الحادث، بينما الشعب الفلسطيني المنسي في ديباجة ونصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يتعرض لعمليات قتل وإبادة لأكثر من شهرين في قطاع، دون أن يحرك ساكنا لضمير الإنسانية، حتى أنه يحضرني في ذلك قول الشاعر السوري إسحاق أديب ( قتل امرىء فى غابة جريمة لا تغتفر.. وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر) .
كاتب صحفي
[email protected]