آراءدين و دنيا

د. حسنى ابوحبيب يكتب: اصناف من البشر كره الله طاعتهم

قال تعالى “كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ” (التوبة: 46)نزل هذا القول الكريم في مجموعة من المنافقين على رأسهم شيخهم عبد الله بن أبي بن سلول ومعه الجد بن قيس ، دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم للمشاركة في موقعة تبوك ، فتعللوا بعلل باطلة ، واستأذنوه في القعود ، بعد أن عزموا عليه ، قائلين: نستأذنه فإن أذن لنا قعدنا وإن لم يأذن لنا قعدنا أيضاً ، فأذن الرسول لهم في القعود ، فعوتب صلى الله عليه وسلم في ذلك عتاباً رقيقاً من قبل ربه ، “عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ” (التوبة: 43). ثم بين له أنه تعالى كره انبعاثهم معكم وخروجهم فثبطهم وأقعدهم قدراً.

وإذا كان هؤلاء المنافقون قد ذهبت أعيانهم ، إلا أنهم تركوا لنا صفاتهم يتوارثها أحفادهم خلفاً من بعد سلف في ظلمات ثلاث ، جهل ونفاق وشقاق ، تدعوهم للخير أو المشاركة فيه ، فيتعللون بعلل أسلافهم ، إذا رأيت ذلك فاعلم أن الله تعالى كره لهم مشاركتهم فيه لفساد نيّاتهم وخبث طويّاتهم ، فلا تُرع ولا تحزن ، وكن فقط مع الخير وأهله ، واعلم أن الله تعالى قبل أن يخلق الخير خلق له أهله ، فحببه إليهم وحبب إليهم فعاله “وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ” (الحجر: 88).

إن خلق الله من بني آدم أصناف شتى ، ترى فيها العجب ، فمنهم من خُلق للخير ويسر له ، فلا يحسن إلا عمله ولا يصلح لسواه ولا يلتذ إلا به ، وما ذاك إلا لأنه مخلوق له ، روى الحاكم في مستدركه: أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قال لسيدنا علي رضي الله عنه: “يا علي إن الله خلق المعروف وخلق له أهلاً ، فحببه إليهم وحبب إليهم فعاله ووجه إليهم طلٌابه كما وجه الماء إلى الأرض الجريبة لتحيى به ويحيى به أهلها”. هؤلاء من أحب الله منهم الخير فأعانهم عليه ويسرهم له.

لكن على الجانب الآخر ترى أن هناك صنفاً لا يحسنون إلا الشر ولا يصلحون إلا له ، طبعهم النفاق ودينهم اللؤم وديدنهم الخبث ، أخذت دنياهم بمجامع قلوبهم فأنستهم آخرتهم ، جُبلوا على الخداع والمداهنة ، وأقبح هذا الصنف من يستتر بالدين ، وبالدعوة إليه ، فتراه يدعو الناس إلى الله ويفر هو منه ، ويحث على الصدق وهو أكذب خلق طرّاً ، كلما دعوتهم للخير ولٌوا على أدبارهم نفورا ، رؤيتهم علامة شر ، ووجودهم في مكان نذير شؤم ، حيثما حلّوا حلّ معهم الخراب ، وحيثما وجدوا وجدت معهم الفتن ، كره الله طاعتهم فثبطهم عنها لعلمه بخبث نيّاتهم وفساد طوياتهم ، فلا يحزنك حالهم وكن على يقين من خيبة مسعاهم.

من هنا وجب على كل ذي لبّ أن يراقب حاله مع ربه ، وموقفه من طاعته ، فإذا رأى في نفسه انبعاثاً ونشاطاً إلى الطاعة فليفرح ، ليس بطاعته بل بأن جعله الله تعالى لها أهلاً ، ورحم الله سيدي ابن عطاء الله السكندري إذ يقول في إحدى حكمه: “لا تفرحك الطاعة لأنها برزت منك إلى الله ، وافرح بها لأنها برزت من الله إليك”. أما إن رأى في نفسه كسلاً وخمولاً وقعوداً عن الطاعة فليحذر كل الحذر من أن يكون الله تعالى كره منه طاعته فأقعده وثبطه ، “وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ” (الإنسان: 30 ، التكوير: 29).

“كره الله انبعاثهم فثبطهم” ومن ثبطه الله مهما دعوته لا يستجيب ، ومهما وعظته لا يرعوي ، “إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ” (فاطر: 14) ، سبقت عليهم كلمة العذاب ، لذا لا تذهب نفسك عليهم حسرات ، واعلم أن الله تعالى كما خلق خلقاً لجنانه ، فإنه كذلك خلق خلقاً لنيرانه ، فأرضى جنانه بماخلق لها ، وأرضى نيرانه بما خلق لها.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا برحمته ومنه وفضله من أهل جنانه ، وأن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر.
هذا وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

زر الذهاب إلى الأعلى