الدكتور أسامة حمدى يكتب: رسالة غريبة للأطباء والشعب

استمعت مندهشًا إلى تعليق الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، عن مشكلة هجرة الأطباء؛ فهو لا يعتقد وجود مشكلة، وأن كليات الطب الجديدة ستخرج بعد عدة سنوات 29 ألف طبيب سنويًّا، ويقول: ما الضرر من هجرة 7-8 آلاف منهم سنويًّا، وإن تحويلهم للعملة الصعبة يصب في مصلحة الدولة، وأن هجرتهم جزء من خطة الدولة لتشجيع الهجرة للخارج بحثًا عن فرص عمل، وإن الهجرة جزء من القوة الناعمة المصرية؟!
لا أخفي عليكم أن هذا الحديث أصابني بالحزن والإحباط الشديدين، وأوضح لي أننا في مشكلة كبيرة في قدرتنا على فهم أبعاد المشكلة وخطورتها وتداعياتها على الأمن القومي المصري. كنت اتوقع أن يتحدث سيادته عن الأسباب الثلاثة والمعروفة لزيادة معدل هجرة الأطباء (ضعف الأجور، ونقص التدريب، وبيئة العمل غير المناسبة)، وأن يذكر لنا كيف ستحلها حكومته في خطة قصيرة أو طويلة المدى من أجل أن نحافظ على ما بقي لنا من أطباء ليقدموا خدمة صحية جيدة لشعبنا الصابر، أو أن يدعو سيادته حكماء المهنة للتشاور والتفكير من خارج الصندوق لحل المشكلة، فالحلول كثيرة وممكنة.
ما فات سيادته:
١- أن مصر حاليًا من أقل الدول العربية في نسبة عدد الأطباء والممرضين لعدد السكان كما أوضحت مجلة الإكونوميست منذ عدة سنوات، وقبل أن تتفاقم المشكلة، فلدينا حاليًا من الأطباء أقل من ثلث المعدلات المقترحة من منظمة الصحة العالمية لتقديم الرعاية الطبية الأساسية الجيدة، والتي هى 3 أطباء لكل 1,000 نسمة (المانيا 4.5, بريطانيا 3.2, الولايات المتحدة 2.6, السعودية 2.7, في حين أن مصر 0.9).
٢- من عام 2019 حتى عام 2022 هاجر نحو 9.500 طبيب، وتزايدت المشكلة باطراد سريع في السنتين التاليتين لتصل في العام الماضي وحده إلى نحو 7.000 طبيب، أي حوالي نصف الخريجين! ومن المتوقع استمرار الزيادة حتى لو زاد عدد الخريجين.
٣- ليس الحل في زيادة عدد كليات الطب كما شرح سيادته، فمعظم الكليات الجديدة ليس لها مستشفيات للتدريب، ومعظمهم يتعاقد حاليًا مع “المستشفيات الجامعية الكبيرة”، التي هي في الأصل لا تكفي خريجيها، والنتيجة المتوقعة هي بالتأكيد زيادة في تدهور التعليم والتدريب الإكلينيكي، الذي هو أحد الأسباب الجوهرية للمشكلة. والنتيجة الواضحة هي تخرج أطباء ضعيفي التدريب والخبرة!
٤- سيادته يعرف بالتأكيد أن نسبة كبيرة من الأعداد التي ذكرها عن طلبة كلية الطب هي من الطلبة الوافدين، خاصة من جنوب شرق آسيا لرخص الدراسة، وعودتهم إلى بلادهم بعد تخرجهم لن يعود على مصر بأي فائدة مما ذكرها سيادته!
٥- الهجرة الصحية هي التي تضمن عودة هؤلاء الأطباء إلى مصر بعد تدريبهم وعملهم بالخارج وهو ما كان يحدث في الماضي في دول الخليج، ولكن معظم الهجرة الجديدة وجهتها دول أوروبا، خاصة إنجلترا وألمانيا لسد العجز لديهم، وهو ما يعني عدم عودتهم إلى مصر لتوافر التعليم الجيد المجاني لأولادهم والبيئة الجيدة للعمل، أما عن مرتباتهم فهى على عكس ما يعتقد سيادته ستكفيهم بالكاد في هذا الدول دون تحويش أو تحويل.
٦- هناك كثير من المستشفيات الآن في أمس الحاجة إلى الأطباء، وخاصة المتخصصين، وأعداد المهاجرين في تزايد سنوي.
٧- للأسف، أصبح كثير من نيابات الجامعات بلا أطباء ليشغلوها؛ مما سيؤثر بشدة في عدد الأطباء المدربين تدريبًا عاليًا، وسيؤدي ذلك إلى ارتفاع شديد في أجر الطبيب الحر.
بأمانة، لم أفهم ولم يفهم غيري ممن أفنو عمرهم في هذه المهنة هذه الرسالة التي يريد الدكتور مدبولي أن يوجهها إلى الأطباء والشعب المصري؟ ما يقوله سيادته معناه: “يا من ترغب في دراسة الطب، سنخفض لك المجموع، وسنقبلك في كليات طب جديدة -معظمها خاص أو أهلي- وسينافسك في التعلم فيها الطلبة الوافدون؛ لأنهم يدفعون لنا بالعملة الصعبة، وإن كان لا فائدة للبلد منهم بعد التخرج، وستدفع أنت وأهلك ما يقارب المليون جنيه أو أكثر في دراستك، وستتخرج بلا تدريب كافٍ؛ حيث لا توجد مستشفيات تعليمية كافية لكل هذا العدد الذي نخرّجه، وسنمنحك بعد كل هذا الشقاء والمصاريف مرتبًا تافهًا لا يتعدى 7 آلاف جنيه، فليس من أولوياتنا الآن تحسين مرتبك، وغالبًا لن تستطيع التدريب في التخصص الذي تبغيه فالطريق طويل ولن يكفيك مرتبك لهذه الفترة لتعيش حياة كريمة، وغالبا لن تعمل في بيئة مناسبة. أيها الطبيب الشاب بصراحة هذا أكثر ما يمكن أن نعمله لك، فإذا أعجبتك الحال استمر في تقديم الخدمة الإنسانية التي ننتظرها منك إذا كنت تريد البقاء وسط أهلك وبلدك، والبديل الأفضل لك -الذي ترعاه الدولةـ هو أن تسافر إلى الخارج؛ فالدولة تشجعك على البحث عن رزقك في بلاد الله الواسعة، فنحن نريدك قوة ناعمة مؤثرة، والمهم أن الدولة ستستفيد كثيرًا من تحويلاتك بالعملة الصعبة، التي نحمد الله أنها تزداد سنويًّا. ويا أيها الشعب، مع أن الدستور الذي توافقنا عليه ينص على حقك في تلقي خدمة طبية جيدة، سنقدم لك خدمة على يد طبيب بلا تدريب كافٍ، ومطحون ماديًّا، وفي بيئة عمل بالكاد تلبي طلباتك، فهذا أكثر ما يمكن أن نقدمه لك”.
كنت أتمنى أن يدرس سيادته هذا الموضوع الخطير وتداعياته ويناقشه بإمعان وتدبر مع حكماء المهنة وأهل الخبرة -وما أكثرهم في الداخل والخارج- قبل توجيه هذه الرسالة الغريبة، وقبل أن نصل بمصر للجفاف الطبي التام ونصبح دولة بلا أطباء.
لقد قلت ما عندي ويعلم الله أني ناصح أمين أعشق بلدي العظيم وأخاف عليه.