آراء

م. خالد محمود خالد يكتب: الموظف الفهلوي… الكاريزما التي تخدع المؤسسات

في كل مؤسسة، يوجد شخص لامع الحضور، يجيد الكلام، سريع البديهة، يمتلك قدرة غريبة على كسب الإعجاب من أول لقاء. يملأ الأجواء بالحديث عن إنجازاتٍ لا يُعرف مصدرها، ويتنقل بين المكاتب بابتسامة جاهزة وعبارات منمقة توحي بالثقة والسيطرة. إنه “الموظف الفهلوي”، الذي عرف طريق النجاح لا من بوابة الجهد، بل من باب المظاهر.

هذا النموذج من الموظفين يعتمد على مهارة فطرية في التمثيل الوظيفي، فهو يدرك جيدًا ما يجب أن يُقال، لا ما يجب أن يُفعل.
يتحدث بلغة المديرين، يردد شعارات العمل الجماعي، ويعرف متى يُظهر حماسه ومتى يتقمص دور المنقذ. لكن حين يُقاس أداؤه بالأرقام والنتائج، تتبخر الصورة اللامعة وتظهر الحقيقة: إنتاج ضعيف، مهام مؤجلة، واعتماد دائم على جهود الآخرين لتغطية العجز.

الخطير في “الموظف الفهلوي” أنه لا يضر نفسه فحسب، بل يضر المؤسسة كلها. فهو كمن يصنع سحبًا من الدخان حول أدائه، فيغيب التقييم الموضوعي، ويُخدع المسؤولون بمظاهر النشاط. والأسوأ أن المؤسسة تبدأ — دون وعي — في مكافأة السلوك الخطأ، فيصبح من يجيد الكلام أهم ممن يجيد العمل، ومن يملك العلاقات أهم ممن يملك الكفاءة.

ومع مرور الوقت، تتسلل العدوى إلى بيئة العمل.

فالزملاء المنتجون الذين يرون مجهودهم يُهمَّش، أو تُنسب إنجازاتهم لغيرهم، يفقدون الحافز تدريجيًا. أما الكفاءات الصامتة التي تركز على الإنجاز أكثر من الظهور، فتبدأ في الانسحاب بصمت.

وهكذا تتحول المؤسسة إلى مكان يعج بالمظاهر، فارغ المضمون، تكثر فيه الاجتماعات وتقل فيه النتائج، وتضيع فيه الحقيقة بين ضجيج الكلمات.

تلميع الموظف الفهلوي لا يحدث فجأة، بل يبدأ بخطوات صغيرة؛ كأن يُشاد به في اجتماع، أو يُمنح صلاحيات إضافية لمجرد أنه “يتحدث بثقة”، ثم يتطور الأمر ليصبح هو مصدر المعلومة الوحيد، والممثل غير الرسمي للإدارة، فيتحكم بالروايات ويغطي على فشله بحكاياتٍ مصاغة بإتقان.

النتيجة النهائية هي خسائر حقيقية لا تراها المؤسسة إلا بعد فوات الأوان:

قرارات خاطئة مبنية على معلومات مضللة، مشروعات متأخرة رغم التقارير الإيجابية، وانخفاض في الروح المعنوية للعاملين. ومع الوقت، تُصاب الإدارة العليا بالارتباك وهي تبحث عن السبب، دون أن تدرك أن الجاني كان أمامها طوال الوقت، متحدثًا باسم الولاء والإنجاز.

ولأن المؤسسات الناجحة تُقاس بقدرتها على فرز الصادق من المتصنع، فإن مواجهة الفهلوة الإدارية تبدأ من الداخل.
الخطوة الأولى هي بناء نظام تقييم موضوعي يعتمد على النتائج القابلة للقياس لا على الانطباعات. والثانية، تعزيز ثقافة التوثيق، بحيث تُسجَّل كل مهمة وإنجاز بالأرقام والتقارير، لا بالكلمات والادعاءات.

أما الخطوة الثالثة، فهي تدريب المديرين على اكتشاف “الفهلوة المقنعة”، عبر الملاحظة الدقيقة للسلوك: من يكثر الحديث دون أن يقدم مخرجات؟ من يظهر دائمًا في الواجهة عند النجاح ويختفي عند الخطأ؟ ومن يسعى لتضخيم دوره في كل مهمة؟

إلى جانب ذلك، يجب أن تكافئ المؤسسة الأداء الفعلي لا اللفظي، وتشجع من يعمل بصمت بدلًا من أن تسلط الضوء على من يتحدث أكثر. فالكفاءات لا تحتاج إلى ميكروفون، بل إلى بيئة عادلة تقدر الجهد وتكافئ الإنجاز.

إن أخطر ما يصيب أي مؤسسة أن تنخدع بالكاريزما وتغفل عن الكفاءة.

فالعمل الحقيقي لا يُقاس بما يُقال في الاجتماعات، بل بما يتحقق على أرض الواقع.

والفهلوي مهما برع في التمثيل، لن يبني مؤسسة ناجحة، لأنه يفتقر إلى أساسها الأول: الصدق في الأداء.

في النهاية، ربما يجذب الموظف الفهلوي الأنظار لبعض الوقت، لكنه لا يستطيع أن يخدع الأرقام إلى الأبد.

أما المؤسسة التي تتعلم كيف تميز بين من “يعمل” ومن “يتظاهر بالعمل”، فهي وحدها التي تضمن بقاءها في دائرة النجاح الحقيقي، لا النجاح الموهوم.

زر الذهاب إلى الأعلى